من الأهمية أيضاً أن ندرك أننا هنا لا نتعامل مع وصايا العهد الجديد باعتبارها [نسخ وإلغاء لوصايا العهد القديم
أن الله كان يعلن عن نفسه تدريجيا للإنسان - بحسب نضج الإنسان وقدرته على فهم هذا الإعلان - إلى أن يكتمل هذا الإعلان في المسيح يسوع. ويبدو هذا واضحا في قول الرسول بولس:
"لَمَّا كُنْتُ طِفْلًا كَطِفْل كُنْتُ أَتَكَلَّمُ، وَكَطِفْل كُنْتُ أَفْطَنُ، وَكَطِفْل كُنْتُ أَفْتَكِرُ. وَلكِنْ لَمَّا صِرْتُ رَجُلًا أَبْطَلْتُ مَا لِلطِّفْلِ." (1 كو 13: 11).
وقول الرسالة إلى العبرانيين:
"اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ، الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ، الَّذِي وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا " (عب 1: 1-3).
فكما يمنع الأب ابنه الرضيع من أي طعام سوى لبن الأم، ثم يفطمه ويسمح له بأي طعام إلا لبن الأم، دون أن يعني هذا تناقض في شخصية الأب، قدر ما يعني ضرورة تغير الوصية بسبب نضج الابن وإدراكه.
وكما يمنع الأب ابنه الصغير من الاقتراب من الموقد، ثم حين يكبر يطلب منه تسخين الطعام بنفسه على الموقد، دون أن يعني هذا أن محبة الأب لابنه قد توقفت أو أن خوفه عليه واهتمامه به قد انتفى، فمحبة الأب لابنه الصغير الغير مدرك الخطورة الموقد، كانت تلزمه بحمايته من نفسه وجهله، بينما ذات المحبة لابنه الذي كثر، تلزمه بتحميله مسؤولية نفسه، فمحبة الأب لم ولن تتغير، لكن ذات المحبة تلزم الأب بتغيير وصيته وتوجهاته نحو ابنه، بحسب احتياج الابن في هذه المرحة العمرية وإدراكه ونضوجه.
أي قام الله بإعطاء وصايا - بل وسمح بأفعال - في العهد القديم كانت تتناسب مع طبيعة إدراك مؤمني العهد القديم الجزئية عنه، ثم قام بإلغائها لاحقا والارتقاء بها في العهد الجديد بما يتناسب مع إدراك مؤمني العهد الجديد عن الله كما أعلن في المسيح يسوع.
وهي ضرورة يفرضها تدرج إعلان الله عن نفسه، ويحترمها ازدياد إدراكنا وفهمنا لله كمن أعلن عن نفسه بصورة كاملة في المسيح
وهي لا تعني تغير الله، قدر ما تعني تغير الإنسان (الذي لم يكن يدرك عن الله ما يكفي مثل الطفل)، ثم عرف الله في المسيح فأدركه كما ينبغي (مثل الابن الناضج).
وهذا المنطق نجح كثيرا في تفسير التناقضات الصارخة بين وصايا العهدين، دون أن تنكر وصية أو تقسم الناموس إلى طقسي وأخلاقي، ودون أن تنكر وحي العهد القديم أو ترفض جزء من وحيه. وقد بنيت هذه الأطروحة فرضيتها على اعتبار أن مؤمن العهد القديم طفلا، بالمقارنة مع مؤمن العهد الجديد البالغ، لأن إعلان الله عن نفسه في العهد القديم كان جزئيا ومحدودا بحدود هدف الله المؤقت من العهد القديم، وبحدود إدراك مؤمن العهد القديم لله.
في ضوء هذا تصبح إشكالية التناقض - إن جاز لنا أن ندعوها إشكالية بعد أن فهمنا – طبيعية إلى حد كبير، وهي ترتبط بطبيعة إدراكنا لله ونضجنا في معرفته، بل هي ضرورة يفرضها تدرج إعلان الله عن نفسه، ويحترمها ازدياد إدراكنا وفهمنا لله كمن أعلن عن نفسه بصورة كاملة في المسيح، إذ لا ترتبط تلك الإشكالية بتغيير في طبيعة الله، بل في وصاياه؛
وليس المقصود بالطبع أننا قد صرنا مدركين لله تماما، لكن المقصود هو أننا صرنا مدركين له بالقدر الذي أراد هو أن يكشفه لنا عن نفسه، فالله في الكتاب المقدس لم يكن يبغي منه أن يعلن لنا كل شيء عن الله، بل فقط ما أراد الله أن يعلن عن نفسه فيه، وهو يكفينا، فالأمر ليس عدم قدرة الكتاب على التعبير عن الله، بل أن هدف الله من الكتاب هو أن يكون شاهدا عن الله بالقدر الذي يرى الله أننا نحتاجه، وهو بالتأكيد ما يكفينا،
من الأهمية أيضاً أن ندرك أننا هنا لا نتعامل مع وصايا العهد الجديد باعتبارها [نسخ وإلغاء لوصايا العهد القديم، مثلما يتعامل البعض مع كتبه المقدسة، لكنها تتعامل مع وصايا العهد الجديد باعتبارها ارتقاء عن وصايا العهد القديم، فالأمر ليس مجرد تناقض أو إلغاء، بل ارتقاء، وهو ما أراده الله لنا في المسيح: أن يرتقي بنا إليه، عن طريق تنازله أولا لأجلنا.
في النهاية يجب أن نعرف سبب التناقض بين وصايا العهدين القديم والجديد - وطبيعة التناقض وسببه، وأنه تناقض طبيعي لا يعيب العهد القديم ولا يقل من ثبات طبيعة الله أو يشكك فيها.
المراجع:
ديفيد ويصا، الكتاب المقدس بلا رتوش، دار النشر الأسقفية، الطبعة الأولي، 2017.