الآباء هم المعلّمون الذين ساهموا في تحديد مضمون الإيمان أو في صياغته أو شرحه، حيث المقصود بالإيمان ليس هو العقيدة فقط ولكن التقليد الذي استلمته الكنيسة من الرسل
من هم الآباء:
جرت العادة منذ وقت قديم جدًا على تسمية معلّمي الكنيسة ومؤلفي الكتابات المسيحية الأولى باسم ” آباء الكنيسة ” . وفي الأزمنة القديمة كانت تطلق كلمة أب على “المعلم”. ففي الاستعمال الكتابي وفي العصر المسيحي الأول يعتبر المعلّمون هم آباء لتلاميذهم. فمثلاً يقول الرسول بولس: ” لأنه وإن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح لكن ليس لكم آباء كثيرون . لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل ” (1كو15:4) . والقديس إيرينيئوس Ireneus أسقف ليون في القرن الثاني يعلن [حينما يتعلم شخص من فم شخص آخر فإنه يُسمى ابنًا للذي علّمه والذي علّمه يدعي أباه] . ويقول كليمندس الأسكندري (150ـ210م): [ الكلمات هي ذرية النفس . ولذلك فإننا ندعو الذين علمونا، آباء لنا … وكل من يتعلم هو من جهة الخضوع ابن لمعلمه.
فالآباء هم المعلّمون الذين ساهموا في تحديد مضمون الإيمان أو في صياغته أو شرحه، حيث المقصود بالإيمان ليس هو العقيدة، فقط ولكن التقليد الذي استلمته الكنيسة من الرسل وما يعبر عنه القديس يهوذا في رسالته بعبارة ” الإيمان المُسلّم مرة للقديسين ” (يهو3) .
وقد جرى العرف على ضرورة توفّر أربع صفات فيمن يعتبرون ” آباء الكنيسة ” وهي:
1 ـ أرثوذكسية العقيدة.
2 ـ قداسة الحياة.
3 ـ قبول الكنيسة لهم.
4 ـ القِدَمِية، أي أن يكون من آباء القرون الستة الأولى، وذلك حسب إيمان الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وشقيقاتها ـ الكنائس الشرقية الأرثوذكسية (السريانية والأرمنية والأثيوبية والهندية .. إلخ) .
أما بقية الكُتّاب اللاهوتيين في كل العصور فيطلق عليهم لقب ” الكُتّاب الكنسيين ” وهو تعبير نحته القديس جيروم (ايرونيموس) في أواخر القرن الرابع في كتابه مشاهير الرجال.
أهمية كتابات الآباء:
أ ـ كان الأستاذ الدكتور جون ن. د. كيللي J. N. D. Kelly أستاذ الدراسات الآبائية وتاريخ العقيدة المسيحية بجامعة أكسفورد محقًا عندما كتب أن: ” السبيل الوحيد لفهم ذهن الكنيسة الأولى هو أن ينقع الإنسان نفسه في كتابات الآباء ”
فالواقع أن كل تدريب على المعرفة اللاهوتية يظل ناقصًا جدًا بدون اختبار أو تذوق لفكر الآباء ـ فالاختبار الآبائي هو اختبار للحقيقة اللاهوتية، هو اختبار للوحدة في التنوع ـ هذه الوحدة التي تلقي ضوءًا قويًا للتمييز بين ما هو أساسي ومحوري في المسيحية، وما هو ثانوي وجانبي.
ب ـ ودراسة كتابات الآباء تعطينا اختبار توحيد القلب مع الذهن في معرفة الإلهيات. فالمعرفة اللاهوتية ليست مجرد معرفة جافة نظرية ولا هي مجرد رياضة عقلية، بل هي اتحاد القلب والذهن مع الله. وهذا هو السبب الذي جعل كبار اللاهوتيين والقديسين، يدرسون ”الآباء” بعناية واهتمام لأن ما كتبه الآباء هو عمل من أعمال القداسة. فكتابات الآباء مليئة بالمشاعر المسيحية كما يقول ”بوسيّه ” Boissuet، إلى جانب المعرفة العميقة والدقيقة. فآباء الكنيسة يجمعون في كتاباتهم وخبراتهم القداسة والمعرفة معًا بدون انفصال وبلا أي تناقض.
كتابات الآباء وتفسير الكتاب المقدس:
لكتابات الآباء أهمية كبرى لأن الكنيسة الآن في عصرنا وفي كل عصر تالي للقرون الخمسة الأولي تعتمد في تفسير الكتاب المقدس على تفسيرات الآباء للكتاب المقدس، وخاصة تفسير الآيات التي تُستقى منها العقائد الإيمانية. ولذلك يلزم للكنيسة في عصرنا أن يكون لديها كل تفسيرات الآباء لأسفار الكتاب المقدس مترجمة إلى اللغة العربية، وهذا احتياج مُلح بالنسبة للكنيسة في مصر وفي كل البلاد الناطقة بالعربية. ومن هنا فإن كتابات الآباء لا غنى عنها لرعاة الكنائس والمعلمين والوعاظ وطلبة الكليات اللاهوتية، ولكل من له اهتمام بالإيمان المسيحي ودراسة الكتاب المقدس.
كتابات الآباء والحياة الروحية:
كما أن كتابات آباء الكنيسة هي مصدر الخبرات الروحية التي عاشها القديسون وكتبوها أو كُتبت عنهم سواء كانوا من الآباء الذين كانوا يرعون المؤمنين في الكنائس أو من الآباء النُساك في البرية الذين لهم إنتاج وفير في الحياة الروحية والنُسكية. كما أنها هي مصدر سير الشهداء والقديسين في العصور المسيحية الأولى.
مفهوم علم الآباء وتاريخه:
الباترولوجيا هي ذلك الجزء من تاريخ الكتابات المسيحية التي تتناول المؤلفين اللاهوتيين في العصور المسيحية الأولى. والباترولوجيا تضم كل من الكُتّاب الأرثوذكس والهراطقة، رغم أنها تعالج باهتمام أكبر أولئك المؤلفين الذين يمثلون تعليم الكنيسة المُسلّم من الرسل أي التعليم التقليدي. وهؤلاء المؤلفين هم الذين يطلق عليهم آباء الكنيسة ودكاترة، أي معلّمو الكنيسة. وهكذا فعلم الباترولوجيا يمكن أن يُعرف بأنه “علم آباء الكنيسة “.
إن اسم هذا الفرع من علوم اللاهوت هو حديث العهد. وأول من استعمل اسم الباترولوجي هو جون جرهارد (Joh. Gerhard) الألماني من لاهوتيي القرن17، وذلك عندما استخدم كلمة باترولوجيا (Patrologia) كعنوان لكتابه الذي نشره سنة 1653م. إلا أن فكرة تاريخ الأدب المسيحي الذي تظهر فيه وجهة النظر اللاهوتية بارزة هي فكرة قديمة.
لغة الآباء:
كانت لغة المسيحية منذ نشأتها حتى القرن الثاني هي اللغة اليونانية. إذ كانت هذه اللغة هي لغة الأدب والحديث طوال القرون الأولى في الإمبراطورية الرومانية في كل بلاد البحر الأبيض المتوسط. فقد غزت الحضارة اليونانية والأدب اليوناني العالم الروماني كله حتى أنه كان يندر أن تكون مدينة في الغرب لا تستعمل فيها اللغة اليونانية كلغة التعامل اليومي. وحتى في روما وشمال إفريقيا وبلاد الغال (فرنسا) كان استعمال اللغة اليونانية حتى القرن الثالث. ولهذا السبب تعتبر اللغة اليونانية هي اللغة الأصلية لكتابات الآباء، وإن كان في الشرق قد حلّ محلها جزئيًا اللغات المحلية مثل السريانية في سوريا والقبطية في مصر وخاصة الوجه القبلي، والأرمنية في أرمينيا. وبعد القرن الثالث حلت اللاتينية في الغرب محل اليونانية .
إن كُتّاب أسفار العهد الجديد مثلهم مثل آباء الكنيسة لم يكتبوا باللغة اليونانية الكلاسيكية، بل بلغة يونانية تسمي ” كويني ” (Koine) والتي يمكن أن توصف بأنها تآلف بين اللغة الأتيكية (Attic) لغة مقاطعة ” أتيك” في اليونان وبين اللغة اليونانية الشعبية. وقد صارت لغة الـ “كويني” هي لغة كل العالم الهلليني منذ القرن الثالث قبل الميلاد وحتى نهاية العصور المسيحية الأولى أي حتى بداية القرن السادس .
تصنيف كتابات الآباء:
توجد أكثر من طريقة لتصنيف الآباء. فعلماء علم الآباء يُقسّمون الآباء، أولاً بحسب اللغة التي كتبوا بها كتاباتهم: اليونانية، واللاتينية، والسريانية والقبطية والأرمنية. وأكبر كمية من كتابات الآباء وصلتنا باللغتين اليونانية واللاتينية. ومن هنا جاءت التسميات للمجموعتين الشهيرتين: باترولوجيا جريكا (أي الآباء باليونانية)، وباترولوجيا لاتينا (أي الآباء باللاتينية).
الأساس الثاني الذي يصنفون به الآباء هو الترتيب التاريخي، وعلى الأساس التاريخي تُقسم المراجع الآبائية، كتابات الآباء إلى عدة عصور:
أ ـ بدايات الكتابات الآبائية: هذا العصر يشمل كتابات القرون الثلاثة الأولى أي يمتد من حوالي سنة 100 إلى سنة 300ميلادية.
ب ـ العصر الذهبي للكتابات الآبائية: ويمتد من سنة 300 إلى 440م.
ج ـ العصر المتأخر: من 440 إلى 600م. وعند الروم يمتد العصر المتأخر حتى سنة 893م.
https://youtu.be/meHqMO-_RDM
المراجع:
كتاب علم الآبائيات – جوهانس كواستن.
مدخل في علم الآبائيات – القمص أثناسيوس فهمي.
رؤية جديدة في علم الآبائيات – د. ماجد عزت إسرائيل