«كَعَدَدِ ٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي تَجَسَّسْتُمْ فِيهَا ٱلأَرْضَ أَرْبَعِينَ يَوْماً، لِلسَّنَةِ يَوْمٌ. تَحْمِلُونَ ذُنُوبَكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَتَعْرِفُونَ ٱبْتِعَادِي. أَنَا ٱلرَّبُّ قَدْ تَكَلَّمْتُ. لأَفْعَلَنَّ هٰذَا بِكُلِّ هٰذِهِ ٱلْجَمَاعَةِ ٱلشِّرِّيرَةِ ٱلْمُتَّفِقَةِ عَلَيَّ. فِي هٰذَا ٱلْقَفْرِ يَفْنُونَ وَفِيهِ يَمُوتُونَ» (عدد 14: 34 و35).
كلمة جهنم مأخوذة من «وادي هنوم» الواقع إلى الجنوب والغرب من مدينة القدس. وفي هذا الوادي نفسه أجاز آحاز ومنسى أولادهما بالنار (2 ملوك 16: 3، 2 أخبار 28: 3). ثم جعل الوادي مزبلة للمدينة المقدسة وسمي مكان الضباب وأرض اللعنة. وهكذا تطور احتقار اليهود للمكان حتى أطلقوا اسمه على مكان الهلاك. ومن هنا ولدت كلمة جهنم (متى 5: 22، 10: 28، 23: 15) حيث البكاء وصرير الأسنان، وحيث النار الأبدية والعقاب الدائم للأشرار (متّى25: 46، مرقس9: 43 و44، 2بطرس 2: 4).
ما هي جهنّم
أ - حقيقة جهنّم
يتبين من النصوص أعلاه، أن جهنّم حقيقة مخيفة، إلى حدّ أن بعض الأشخاص يسخطون عند ذكر صور دينونات جهنّم القاسية التي ضرب بها الإنسان في العهد القديم، لا يجدون في الله إله الحب، لكنهم ينسون أن الدينونات المعلنة في العهد الجديد، أشد هولاً من تلك التي ذكرها العهد القديم مثالاً على ذلك: «مَنْ خَالَفَ نَامُوسَ مُوسَى فَعَلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ يَمُوتُ بِدُونِ رَأْفَةٍ. فَكَمْ عِقَاباً أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقّاً مَنْ دَاسَ ٱبْنَ ٱللّٰهِ... مُخِيفٌ هُوَ ٱلْوُقُوعُ فِي يَدَيِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيِّ!» (عبرانيين 10: 28 - 31).
إن دينونات العهد القديم التي تعرضت للنقد، كانت جسدية وأرضية وبالتالي زمنية. وكانت تترك للخاطي إمكانية التوبة عند الموت، وهكذا تنجو النفس. أما العذابات التي يشير إليها العهد الجديد ويشدد عليها فهي روحية وقاسية وأبدية.
ب - الصور التي تمثل جهنّم
نار حطب مشتعلة، وقائد أبدية، نار آكلة، اللهيب، النار التي لا تطفأ، النار الأبدية، النار التي تأكل المضادين، جهنّم النار، نار جهنّم، أتون النار، النار والكبريت، بحيرة النار المتقدة بالكبريت، بحيرة النار. وصور أخرى مخيفة منها الدود الآكل، العار الأبدي، العذاب الأبدي، الويل، البكاء وصرير الأسنان، الظلمة، الازدراء الأبدي، الغضب الآتي، الهلاك الأبدي، الانتقام، الخ...
من المتفق عليه أن الكتابة المقدسة كانت مضطرّة على استعمال الاصطلاحات اللغوية البشرية، لكي تعطينا الفكرة عن العالم الآتي. ولكن التعابير التي استعملت لوصف ما هناك، هي محض روحية. وتختلف كل الاختلاف عن المشاهد المشخّصة التي تخيّلها فنّانو القرون الوسطى. ففي الكتاب المقدس، لم ترد أية صورة لجهنّم في شكل مرجل مضحك هائل الحجم، تسلق فيه أجساد الملاعين، وحولهم مجموعة من الشياطين ذوي القرون، والمسلحين بقضبان حديد مسننة، يطعنون بها تلك الأجساد.
ولعل الناس تخيلوا هذه الصور، وهم يقرأون التعابير الكتابية عن النار الآكلة، والدود القارض، والظلمات الخارجية، وبحيرة النار، الخ... ولكن هذه التعابير أقرب إلى المعنى الروحي منها إلى المعنى المادي. وهي لا تحمل في عمقها إلاّ فكر العذاب الشديد الحاصل عن التبكيت، والشقاء في الظلام، والانفصال عن الله.
ج - ماذا تعني جهنّم إذن؟
إن أفضل وصف لجهنّم هو ما جاء في الرسالة الثانية إلى التسالونيكيين 1: 7 - 9، حيث نقرأ: «... عِنْدَ ٱسْتِعْلاَنِ ٱلرَّبِّ يَسُوعَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَعَ مَلاَئِكَةِ قُوَّتِهِ، فِي نَارِ لَهِيبٍ، مُعْطِياً نَقْمَةً لِلَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ ٱللّٰهَ وَٱلَّذِينَ لاَ يُطِيعُونَ إِنْجِيلَ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِينَ سَيُعَاقَبُونَ بِهَلاَكٍ أَبَدِيٍّ مِنْ وَجْهِ ٱلرَّبِّ» ومعنى هذا أن الأشرار سيكونون في حال انفصال أبدي عن الله. بمعنى أن حقيقة ذلك الهلاك، يقوم بالفصل عن الله، وبالنفي الأبدي من حضرته التي هي منشأ كل سعادة. وهذا ما صرّح به المسيح حين قال: «اذهبوا عني يا ملاعين...».
والواضح من تعليم الكتب المقدّسة، ان السّعادة الأبدية تقوم بالوجود في حضرة الله. وقد أشار بولس الرسول إلى هذه الحقيقة، حين قال: «وهكذا نكون كل حين مع الرب». وبالمقابل نرى في الكلمة الإلهية أن الهلاك الأبدي المعبّر عنه بالموت الثاني هو الانفصال نهائياً عن الله.
عذاب جهنّم
أ - أقوال الكتاب المقدس
«لَيْسَ سَلاَمٌ قَالَ إِلَهِي لِلأَشْرَارِ» .(إشعياء 57: 21). الأشرار يستيقظون من تراب الأرض... إلى العار للازدراء الأبدي (دانيال 12: 2) «دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَٱلنَّارُ لاَ تُطْفَأُ» .(مرقس 9: 48) « هُنَاكَ يَكُونُ ٱلْبُكَاءُ وَصَرِيرُ ٱلأَسْنَانِ» (متى 22: 13) «فَيَمْضِي هٰؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِيٍّ» .(متّى 25: 46) «يَا أَبِي إِبْرَاهِيمُ ٱرْحَمْنِي... لأَنِّي مُعَذَّبٌ» .(لوقا 16: 24)
ب - مِمَّ يتألف العذاب؟
ما جاء في قصة لعازر والغني الرديء في لوقا 16 يعطينا فكرة واضحة عن العذاب الأبدي. فالهالك، يكون في حال انفصال عن مكان السعادة بهاوية سحيقة لا يمكن اجتيازها. ويكون في حالة كاملة من يقظة الضمير وحضور الذاكرة. ويكون ملماً تماماً بالخلاص الذي أضاعه، الأمر الذي يضاعف ندمه. وبالتالي عذابه، ويحمله على اليأس.
وإذ كان جواب إبراهيم على توسلاته سلبياً، ازداد يأسه، فقد قال له إبراهيم إن بيننا وبينكم هوّة عظيمة قد أُثبتت، حتى أن الذين يريدون العبور من ههنا إليكم لا يقدرون (لوقا 16: 26). وهذا يعني أنه يستحيل على النفس المعذّبة أن تغادر المكان لكي تصعد إلى أعلى.
يقول بعض الناس: كيف يمكن أن إله الحب والرحمة يسرّ في أن يعذب إلى الأبد المخلوقات، حتى ولو كانت متمرّدة؟ لم يذكر الكتاب إطلاقاً بأن الله يريد عذاب الأشرار، كما أن لا دخل له في إلقائهم في جهنّم العذاب. لكن الأشرار هم الذين انفصلوا باختيارهم عن الله وعن نعمته المخلصة.
لقد رفضوه وتبعاً لذلك جلبوا الشقاء على أنفسهم. وعذابهم يتضمن في حرمانهم من السعادة والفرح بالغفران، وبالسلام الذي يستطيع الله وحده أن يهبه.
في كلامه عن العبرانيين الذين نجسوا الأرض بآثامهم قال الله بفم موسى: «كَعَدَدِ ٱلأَيَّامِ ٱلَّتِي تَجَسَّسْتُمْ فِيهَا ٱلأَرْضَ أَرْبَعِينَ يَوْماً، لِلسَّنَةِ يَوْمٌ. تَحْمِلُونَ ذُنُوبَكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَتَعْرِفُونَ ٱبْتِعَادِي. أَنَا ٱلرَّبُّ قَدْ تَكَلَّمْتُ. لأَفْعَلَنَّ هٰذَا بِكُلِّ هٰذِهِ ٱلْجَمَاعَةِ ٱلشِّرِّيرَةِ ٱلْمُتَّفِقَةِ عَلَيَّ. فِي هٰذَا ٱلْقَفْرِ يَفْنُونَ وَفِيهِ يَمُوتُونَ» (عدد 14: 34 و35). في اعتقادي أنه لا يوجد تعبير لعذاب جهنم أوضح من هذا، أن يحرم أحد من محضر الله لقد عمل الله كل شيء من أجل خلاص الإنسان.
«بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16). وكلّم الناس بإعلان مثلّث، أي بالطبيعة، والضمير والكتب المقدسة (رومية 1: 20 و21، 2: 14 - 16). وبكّتهم بروحه القدوس وسألهم برأفته أن يسلموه ذواتهم. فإن كانوا بعد هذا، يبتعدون عنه باختيارهم، فالمعنى أنهم هم الذين انفصلوا عنه وتبعاً لذلك حرموا من السعادة الأبدية، فصار نصيبهم الشقاء الأبدي. هذه هي جهنّم.
فكم سيكون شديداً رعب وعذاب أولئك، الذين سيقول لهم الرب: «ٱذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى ٱلنَّارِ ٱلأَبَدِيَّةِ» (متّى 25: 41).
المراجع:
أسكندر جديد، جهنّم في كتب المسيحية والإسلام، الطبعة الاولي، 2010.