فرح عظيم غمر بيتنا عندما دخل بولس وسيلا بيتي!
كنت في طفولتي أُكرم بعض الآلهة وأصلي لها. ولكنها خيّبت أملي كثيراً ولم أحتج إليها فيما بعد. لم تقدر هذه الآلهة أن تقدم لي شيئاً، لم أشعر معها بالتعزية أو الفرح أو الرجاء. ولكني في السكون رجوت أن يكون حقاً في العالم أو ربما في السماء شيء يعطيني قوّة ويُعلّمني. شيء ثابت يوثق به ويُتمسك ويُقتدى به. لمن ألتجئ إذا كنت أحتاج إلى نصيحة أو مساعدة؟
الله يعرف ما تتوق نفسي إليه وما أفتش عنه. لقد جمعني بإنسان، على وجهه إمارات الفرح والسلام. باستغراب سمعت من هذا الرجل عن الله خالق السماوات والأرض الذي أعطى الإنسان وصايا للسير بحسبها. الذي بإمكان الإنسان أن يقول له كل شيء وما يحزّ في نفسه وما يفرّحه. إنه يصغي ويمنح القوة الموجودة في كلمته في الكتاب المقدس التي يضعها يومياً موضع التنفيذ.
غربي مدينة فيلبي في وادٍ مشجّر كانت تجتمع جماعة صغيرة من الناس من متقي وخائفي الله. لقد اشتركت في اجتماعاتهم منذ بعض الزمن وقرأت في كتبهم المقدسة وبدأت أصلي بتهيّب الله العجيب. لقد ازداد علمي بهذه الوصايا ووعود الله الفريدة كثيراً. وقد أصبحت هذه الوعود والوصايا لي ينبوع قوة.
كان يوماً مشمساً عندما ذهبت مع نساء أُخريات في الطريق المعهود إلى مكان الاجتماع وجلسنا نحن النساء عند ضفة النهر منتظرات إلى أن جاء واحد يقرأ لنا من لفّة السفر. رأينا أربعة رجال يقتربون منّا. جاؤوا من مدينة فيلبي. لباسهم البسيط وغطاء الرأس دلّ على أنهم رجال يهود. اقترب أحدهم قائلاً: «اسمي بولس، بولس من طرسوس، أسماء مرافقيّ لوقا وتيموثاوس وسيلا».
بعد أن جلسوا بدأ بولس يتكلم بصوتٍ هادئٍ ومقنع. أخبرنا أنّ النبوّات تمت الآن في أيامنا هذه. وُلد المسيّا وعاش بيننا ثم صعد إلى الله. صحيح إنه صُلب على أيدي الجنود الرومانيين ولكنه انتصر على الموت. بدت لي هذه الكلمات وكأنها لا تصدّق. ليس بالنسبة لي فقط لقد شاهد بولس العصيان هذا على العيون المحملقة. لهذا السبب قال: «اصغوا إليّ، أريد أن أقص عليكم ماذا حصل معي وكيف وجدت الحقيقة».
أصغيت وأنا مقطوعة النَّفس إلى ما قاله وهو: إنه هو المطارِد المتعصب طارد أتباع يسوع. وقبل دمشق ظهر له يسوع وقال له: «لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟» (أعمال ٩: ٤). هذه المقابلة مع يسوع غيّرت حياته كلياً. والآن أخذ المهمة: «أريد أن أرسلك إلى الأمم لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱللّٰهِ لينالوا مغفرة الخطايا، وكمختاري الله يدخلون راحته بالإيمان به» (أعمال الرسل ٢٦: ١٨).
ثم استطرد قوله: «حكيت لكم اختباراتي الخاصة ولكني الآن أريد أن أجلب لكم البشارة المفرحة عن يسوع المسيح وأخبركم كيف يقدر كل واحد منكم أن ينال نعمته ومحبته وسلامه».
أُخذت بالأحداث التي سردها بولس عن أمثال يسوع وعجائبه. ولما سمعت عن قوة الروح القدس التي حلّت على المؤمنين يوم العنصرة سألت بانفعال وشوق: «كيف أنال أنا هذه القوّة؟» أجاب: «عليكِ أن تؤمني وتعتمدي». في اللحظة ذاتها كانت لي الرغبة أن أنال هذه القوة التي تكلم عنها بولس.
وبناءً على أسئلة بولس التي طرحها عليّ: «أتؤمنين من قلبك بالله الآب؟» أجبته بفرح: «نعم أنا أومن». «أتؤمنين بأن يسوع مات لأجل خطاياك وغفرها لك؟» أجبته بثبات: «نعم». «أتؤمنين بقوة الروح القدس فيك؟» «أنا أومن». وهكذا غُطست في الماء وتعمدت «باسم الآب والابن والروح القدس».
شعورٌ عميقٌ مفعمٌ بالسعادة فاض عليّ وغمرني: «اشكرك يا رب لأنك فتحت قلبي لأقدر أن أعرفك!».
انشغلت بهذا الفكر مدة من الزمن لأكون على علم بهذه الأفكار الغير مألوفة. ولكني بنفس الوقت ُسررت لأن كل من يخصني آمنوا واعتمدوا. فأنا وكل من في فيلبي نحتاج جميعاً أكثر إلى تعليم وتقوية إيماننا الذي اكتسبناه جديداً. لهذا السبب كلّمت بولس شخصياً: «قد امتلكني كل ما قلته لي. ولكن عليّ أن أسمع أكثر من هذا. تجول في نفسي بعض الأسئلة التي تنتظر جواباً». وهكذا طالبته: «إن كنت مقتنعاً بأني أومن بالرب تعالوا وأقيموا في بيتي».
تردّد بولس فإلى الآن تمسك بالمبدأ بألا يأخذ هو ومعاونوه أيّ دعم. هذا لم أكن أعرفه قبلاً. ولكنه اقتنع ولبّى طلبي. أتى هو ومرافقوه إليّ والنتيجة كانت أنه لم يرفض العطايا التي أرسلناها له فيما بعد من فيلبي. بالحقيقة شعرت أن نفسي مباركة جداً ومميّزة على الآخرين لأني أضفت رجال الله في بيتي.
بعد بضعة أيام سمعت صوتاً قوياً ينبعث من ساحة السوق. جماعة من الناس اجتمعوا حول بولس وسيلا. ماذا حدث؟ جارية كان فيها روح عرافة كانت تصرخ وراء بولس وسيلا عندما رأتهما، وتقول: «هٰؤُلاَءِ ٱلنَّاسُ هُمْ عَبِيدُ ٱللّٰهِ ٱلْعَلِيِّ ٱلَّذِينَ يُنَادُونَ لَكُمْ بِطَرِيقِ ٱلْخَلاَصِ» (أعمال الرسل ١٦: ١٧). وكانت تفعل هذا أياماً كثيرة.
ما قالته كان الحقيقة الخالصة ورغم هذا ضجر بولس ومرافقوه منها. علم بولس من هو وراء هذا الصراخ. كان مؤلماً له ولمرافقيه أن يقبلوا مجداً الذي هو من حق يسوع وحده. أراد الشيطان أن يحوّل النظر عنهم وعن يسوع. فلما ضجر بولس التفت إلى الروح وقال: «فأَنَا آمُرُكَ بِٱسْمِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا. فَخَرَجَ فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ» (أعمال الرسل ١٦: ١٨).
«فَلَمَّا رَأَى مَوَالِيهَا أَنَّهُ قَدْ خَرَجَ رَجَاءُ مَكْسَبِهِمْ، أَمْسَكُوا بُولُسَ وَسِيلاَ وَجَرُّوهُمَا إِلَى ٱلسُّوقِ إِلَى ٱلْحُكَّامِ. وَإِذْ أَتَوْا بِهِمَا إِلَى ٱلْوُلاَةِ قَالُوا: «هٰذَانِ ٱلرَّجُلاَنِ يُبَلْبِلاَنِ مَدِينَتَنَا، وَهُمَا يَهُودِيَّانِ، وَيُنَادِيَانِ بِعَوَائِدَ لاَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَقْبَلَهَا وَلاَ نَعْمَلَ بِهَا، إِذْ نَحْنُ رُومَانِيُّونَ». فَقَامَ ٱلْجَمْعُ مَعاً عَلَيْهِمَا، وَمَزَّقَ ٱلْوُلاَةُ ثِيَابَهُمَا وَأَمَرُوا أَنْ يُضْرَبَا بِٱلْعِصِيِّ» (أعمال الرسل ١٦: ١٩-٢٢). «يا إلهي» صرخت بخوف: «امنحهما قوة وكن معهما لا تدعهما يتألمان لأجل عمل إحسان»! بكل سرور أردت أن أساعدهما، ولكني لم أجد طريقة، إلا أن ربنا الذي أعطي كل سلطان في السماء وعلى الأرض تدخل بطريقة ملموسة.
في «نِصْفِ ٱللَّيْلِ كَانَ بُولُسُ وَسِيلاَ يُصَلِّيَانِ وَيُسَبِّحَانِ ٱللّٰهَ... فَحَدَثَ بَغْتَةً زَلْزَلَةٌ عَظِيمَةٌ حَتَّى تَزَعْزَعَتْ أَسَاسَاتُ ٱلسِّجْنِ، فَٱنْفَتَحَتْ فِي ٱلْحَالِ ٱلأَبْوَابُ كُلُّهَا، وَٱنْفَكَّتْ قُيُودُ ٱلْجَمِيعِ». فقالا «الله حررنا! إن ما حدث هنا كان عمل الله»! فصرخ حافظ السجن مرتعداً: «أين هم المساجين؟ هل هربوا؟» هذا العار لا أحتمله كضابط مسؤول. «ٱسْتَلَّ سَيْفَهُ وَكَانَ مُزْمِعاً أَنْ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، ظَانّاً أَنَّ ٱلْمَسْجُونِينَ قَدْ هَرَبُوا. فَنَادَى بُولُسُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ قَائِلاً: «لاَ تَفْعَلْ بِنَفْسِكَ شَيْئاً رَدِيّاً، لأَنَّ جَمِيعَنَا هٰهُنَا».
فَطَلَبَ (الضابط) ضَوْءاً وَٱنْدَفَعَ إِلَى دَاخِلٍ، وَخَرَّ لِبُولُسَ وَسِيلاَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ، ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا وَقَالَ: يَا سَيِّدَيَّ، مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟» فقال له بولس وسيلا: «آمِنْ بِٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ» ... فَأَخَذَهُمَا فِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ مِنَ ٱللَّيْلِ وَغَسَّلَهُمَا مِنَ ٱلْجِرَاحَاتِ، وَٱعْتَمَدَ فِي ٱلْحَالِ هُوَ وَٱلَّذِينَ لَهُ أَجْمَعُونَ» (أعمال الرسل ١٦: ٢٥-٣٣).
كم كان فرحي لا يوصف عندما علمت أنّ حافظ السجن اعتمد هو وأهل بيته.
«وَلَمَّا صَارَ ٱلنَّهَارُ أَرْسَلَ ٱلْوُلاَةُ ٱلْجَلاَّدِينَ قَائِلِينَ: أَطْلِقْ ذَيْنِكَ ٱلرَّجُلَيْنِ» فرفض بولس وقال: «ضَرَبُونَا جَهْراً غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْنَا، وَنَحْنُ رَجُلاَنِ رُومَانِيَّانِ، وَأَلْقَوْنَا فِي ٱلسِّجْنِ أَفَٱلآنَ يَطْرُدُونَنَا سِرّاً؟ كَلاَّ! بَلْ لِيَأْتُوا هُمْ أَنْفُسُهُمْ وَيُخْرِجُونَا». استغربت من ردة فعل بولس - والآن تعرّفت عليه من ناحية أخرى. حسناً كلّمنا عن تحمُّل الآلام برضى. ولكن المسألة الآن تتعلق بتسمية الظلم ظلماً. «فَأَخْبَرَ ٱلْجَلاَّدُونَ ٱلْوُلاَةَ بِهٰذَا ٱلْكَلاَمِ، فَٱخْتَشَوْا لَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُمَا رُومَانِيَّانِ. فَجَاءُوا وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِمَا وَأَخْرَجُوهُمَا، وَسَأَلُوهُمَا أَنْ يَخْرُجَا مِنَ ٱلْمَدِينَةِ» (أعمال الرسل ١٦: ٣٥-٣٩).
يا له من فرح عظيم غمر بيتنا عندما دخل بولس وسيلا بيتي! فكل الإخوة والأخوات في الكنيسة كانوا مجتمعين للصلاة. نفكر ونأمل أن يتدخل الله بسرعة ويستجيب صلاتنا. هذا قوّى إيماننا وشجّعنا أن نثق بالرب فيما بعد. كم كان صعباً علينا الفراق عن رسل الله ولكننا تعزّينا من معرفتنا. ذهب بولس من عندنا وأما يسوع فبقي معنا كما قال: «هَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ ٱلأَيَّامِ إِلَى ٱنْقِضَاءِ ٱلدَّهْرِ» (متى ٢٨: ٢٠).
المراجع:
دورا بك، نساء في الكتاب المقدس (ليديّة وبريسكلاّ)، الطبعة الأولى.