«لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (الإنجيل بحسب يوحنا ٣: ١٦).
إن حمل خطايا الآخرين ظلم، فكيف توفقون بين هذه الحقيقة، وقولكم أن المسيح أتى إلى العالم، ليكون كبش الضحية من أجل خطايا الناس؟
ليس الخطية في جوهرها عملاً خارجياً، بل هي تصدر عن القلب، بدليل قول المسيح: «لأَنْ مِنَ ٱلْقَلْبِ تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ: قَتْلٌ، زِنىً، فِسْقٌ، سِرْقَةٌ، شَهَادَةُ زُورٍ، تَجْدِيفٌ»(متى ١٥: ١٩). وحينما يكون موقف القلب خاطئاً، تمس الحاجة إلى نوع معين من الغفران. لا الغفران الذي يقول: لا بأس، دعنا من هذا العمل الخاطئ، بل الكفّارة التي توفق بين القلب المسيء والقلب المساء إليه.
فنحن نحاول أن نعلم أولادنا أن يكونوا منصفين عادلين، وأن يقسموا الأشياء فيما بينهم بالعدل، وأن يراعوا الإنصاف في عالمهم الصغير. وهذا صواب، غير أنه لا يسير بهم في طريق الحياة إلا مرحلة قصيرة. فإذا ذهب أخوان في رحلة إلى الصحراء، ونسي أحدهما إهمالاً منه قنينة مائه، فإن العدالة المجردة تقضي على ذلك المهمل أن يتحمل العطش طيلة اليوم. أما نحن فنرجو أن يشركه أخوه في قنينته. وفي تعبير آخر ننتظر من محبة الأخ، أن يشاطر أخاه الماء، كأنها أرفع وأسمى من عدالة الأخ الذي يشرب نصيبه من الماء كاملاً.
ويرينا يسوع شرعة أرقى وأسمى من شرعة العدالة، في قصة الابن الضال. فلم يكن من العدل في شيء أن يركض الأب لاستقبال ابنه الشارد، الذي استهلك نصيبه من ثروة أبيه على لذاته. وأن يقبله في البيت، ويلبسه الحلة الأولى، ويقيم وليمة احتفاء بعودته. بل كان ينبغي أن تقول العدالة له: أمّا وقد عدت أخيراً، بعد أن بددت كل أموالك، فعليك أن تعمل أخيراً في مزرعة العائلة، لتكسب خبزك بعرق وجهك، وتكسو عريك، وتعوض عن المال الذي أتلفته ضياعاً. في الواقع أن هذا ما فكر فيه الابن المسكين أن يطلبه فعلاً. فحين فكر في العودة، قال في نفسه: «أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ» (الإنجيل بحسب لوقا ١٥: ١٨-١٩).
وقد تكون هذه تسوية عادلة من ناحية التعويض عن إتلاف المال، ولكنها ما كانت ستطيع أن تعيد حبل الود المنقطع بين الأب وابنه. أما شرعة الكفارة فقد قضت أن يتحمل الأب المساء إليه الخسارة المتسببة عن خطية ابنه الحبيب. فهل تكون الكفارة ظالمة وغير عادلة، لأنها عملت على مقتضى أرقى من ناموس العدالة؟ سمِّها إن شئت ظلماً، ولكن ظلماً فرضته المحبة طائعة مختارة، وسمت به فوق كل الاعتبارات الطبيعية.
في الحقيقة لو أن شخصاً متسلطاً تدخل وفرض على الأب أن يعامل ولده على النحو الذي تقدم، لكان الموقف كريهاً بشعاً، ولا يمكن للعقل أن يرضى به أو يقبله. ولكن الأب كان مدفوعاً بعامل محبته الخالصة، واختار أن يدفع الثمن. هذا هو موقف الكفارة، وهذا هو حالها.
وهذا ما حدث في الكفارة التي قدمها الله في المسيح. فإن شخصاً ثالثاً لم يأمر بتحمل آلام الخطية، ولكن يسوع حملها، بدافع من حبه العجيب. وفي كلمة أخرى أن حمل الله لم يسق إلى الصحراء سوقاً، وهو لا يدري ولا يريد. بل كان الله في المسيح مصالحاً العالم بنفسه جاعلاً نفسه واحداً مع الإنسان المذنب، ليرفع خطيته. هكذا تألم البار لأجل الأثمة. وتم القول النبوي: «وَعَبْدِي ٱلْبَارُّ بِمَعْرِفَتِهِ يُبَرِّرُ كَثِيرِينَ، وَآثَامُهُمْ هُوَ يَحْمِلُهَا» (أشعياء ٥٣: ١٢).
أتستطيع أن تفكر في طريقة غير هذه لإتمام الكفارة؟ أما أن تتصور الله ملكاً سمحاً كريماً، يقول: هذه الخطية أعفو عنها، كأنها لم تكن، فهذا يترك الخاطئ على حاله دون أن يحدث العفو أي أثر في حياته. حتى أنه ليظن أن الخطية، ليست بأمر ذي بال. وهكذا يبقى بعيداً عن أن يكون في توافق مع الآب السماوي القدوس.
أما القول بأن العدالة تتطلب أن يتحمل الخاطئ عقوبته كاملة، فهذا يحول دون التوبة ويسوق الخاطئ إلى اليأس، ويفصله نهائياً عن الآب السماوي القدوس إلى الأبد، لأن عقوبة الخطية هي الإقصاء التام عن كل خير وصلاح وبر.
قال المسيح له المجد: «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (الإنجيل بحسب يوحنا ٣: ١٦). فهذه هي الكفارة التي تتيح للخاطئ أن يسبح مع جماعة المفديين: «ٱلَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ، وَجَعَلَنَا مُلُوكاً وَكَهَنَةً لِلّٰهِ أَبِيهِ، لَهُ ٱلْمَجْدُ وَٱلسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ ٱلآبِدِينَ. آمِينَ» (رؤيا يوحنا ١: ٥-٦).
وإذ يؤمن بهذا، تأخذ محبته التائبة الصغيرة في التسحب، لتلتقي بمحبة الله الغافرة العظمى التي تركض للترحيب ويكون الاثنان واحداً. وتبدأ حياة جديدة، ويقول الأب: لأن الكفارة قد تمت لألقي بالخطية في هوة النسيان، وكأنها لم تكن، فلا يوجد ما يفصل بيني وبين ابني.
المراجع:
اسكندر جديد، الحقيقة تلاشي الشكوك، الطبعة الأولى، 2006.