كرشنا تنازل رحمة ووداعة، وغسل أرجل البرهميين. وهو الكاهن العظيم، وهو العزيز القادر الذي ظهر بالناسوت، وهو البطل الوديع الذي قدّم نفسه ذبيحة.
يعتقد فريق من وثنيي الهند أن الإله فشنو تجسد في كرشنا، ليخلِّص العالم من خطاياه اللاحقة به، وأنه عندما ثقب جنب كرشنا بالحربة، قال للصياد الذي رماه بالنبلة، وهو مصلوب: «اذهب أيها الصياد محفوفاً برحمتي إلى السماء مسكن الآلهة». ثم مات. وعند موته حدثت مصائب عظيمة، وأحاطت بالقمر هالة سوداء، وأظلمت الشمس في وسط النهار، وأمطرت السماء ناراً ورماداً. وبعد ذلك قام كرشنا من الأموات، ثم صعد بجسده إلى السماء، وكثيرون شاهدوه صاعداً إليها. كرشنا هو الأول والوسط والآخِر، وهو الذي يدين الأموات في اليوم الأخير. ويعتقد هذا الفريق أيضاً، أنه في حضور أرجونا (أحد أتباع كرشنا) تبدّلت هيئة كرشنا، وأضاء وجهه كالشمس، ومجد العلي اجتمع في إله الآلهة، فأحنى أرجونا رأسه تذللاً ومهابة، وتكتّف تواضعاً واحتراماً، وقال: الآن رأيتك على حقيقتك، وإني أرجو يا رب الأرباب. فعدْ واظهر علي ناسوتك ثانية، أنت المحيط بالكون. كرشنا تنازل رحمة ووداعة، وغسل أرجل البرهميين. وهو الكاهن العظيم، وهو العزيز القادر الذي ظهر بالناسوت، وهو البطل الوديع الذي قدّم نفسه ذبيحة.
الرد على تلك الادعاءات:
(أ) إن ما يسميه المعترض «تجسداً» لفشنو، هو التقمُّص الذي كان معروفاً في الهند وغيرها من البلاد الوثنية. فقد ورد في الأساطير الهندية أن فشنو الذي يحدّثنا عنه المعترض حلَّ أولاً في ماتيسا (سمكة)، وثانياً في كورما (سلحفاة)، وثالثاً في قزاها (خنزير)، ورابعاً في نارسيما (أسد)، وخامساً في فامان (قزم)، وسادساً في ماراسونا (فأس)، وسابعاً في داساراثارما (الوجه القمري)، وثامناً في كرشنا (الإله المظلم)، وتاسعاً في البوذا (المستنير)، وأنه سيحلُّ للمرة العاشرة عند انتهاء العالم في كالكي، الذي هو (الزمن)، كما يقول بعض العلماء.
و«التقمّص» كما يعتقد الوثنيون، هو انتقال روح الإنسان بعد موته إلى أجساد الحيوانات أو الناس، لتتطهر حسب زعمهم، من خطاياها. وهو كذلك حلول آلهتهم في بعض الناس أو الحيوانات أو النباتات لأغراض خاصة. أما التجسّد، كما هو معروف في المسيحيّة، فيختلف كل الاختلاف عن التقمّص والحلول، كما اتضح لنا مما سلف.
ولا يُسنَد ما يدعوه المعترض تجسداً عند الوثنيين إلى فشنو وحده، بل إلى كثير من الآلهة غيره. فيقول الهنود عن سيفا إنه حلَّ في أحد عشر حيواناً، كلها مخيفة ومرعبة. ولعل هذا هو السبب الذي من أجله سُمِّي «رب الحيوانات». وحلول الآلهة، كما يعتقد الوثنيون، لا يكون في البشر والحيوانات فقط، بل وفي النباتات والجمادات أيضاً. كما أنه لا يكون بدرجة واحدة في كل حالة من الأحوال، بل يكون بدرجات متفاوتة. فهم يعتقدون أن الحلول الأول هو ظهور صفات الإله في بعض هذه الكائنات، والحلول الثاني هو ظهور ثُمْن الإله، كما حدث في حالة (لكشامانا)، والحلول الثالث هو ظهور رُبْع الإله، كما حدث في حالة (بهاراتا)، والحلول الرابع هو ظهور نصف الإله، كما حدث في حالة (راما)، والحلول الخامس هو الظهور الكامل، كما حدث في حالة (كرشنا).
(ب) قول المعترضين إن الوثنيين يعتقدون أن كرشنا يخلِّص العالم من الخطايا اللاحقة به، ليس له أساس في الأساطير الوثنية، بالمعنى الذي نفهمه من الخلاص، لأن كرشنا هذا كان هو نفسه كتلة من الخطايا، إذ كان يرتكب شروراً وآثاماً لم يرتكب غيره مثلها، حتى اعتُبر عند الوثنيين «إله الشهوة والمظهر المتجسِّد لها».
وإذا كان الأمر كذلك، فلماذ قيل عن كرشنا إنه يخلِّص العالم من خطاياه اللاحقة به؟
الجواب: إن الخلاص من الخطيئة، في نظر أتباع كرشنا وغيره من آلهة الوثنيين، ليس هو التحرر من سلطانها والنجاة من قصاصها، كما تنادي المسيحية، بل هو الانغماس في الخطيئة إلى آخر حدود الانغماس، لأن هذا المدى من الانغماس، كما يعتقدون، يطهِّر النفس ويجعلها أكثر قرباً من الآلهة. فاستخدم المعترض هذا المعنى النجس، ودون أن يشير إلى التناقض بينه وبين معنى الخلاص في المسيحية، وقال إن وثنيي الهند يعتقدون أن كرشنا يخلّص العالم من الخطايا، كما يقول المسيحيون عن المسيح، وذلك ليُدخل في روع البسطاء منهم أن معتقداتهم مقتبسة من الوثنية.
(ج) إذا تأملنا القصة التي أوردها المعترض عن كرشنا، وجدنا فيها التلفيق واضحاً جلياً. فالمعترض يحاول جهد الطاقة أن يُدخل في روع المسيحيين أن الوثنيين كانوا يعتقدون أن كرشنا صُلب لأجل خلاص العالم، كما يقولون هم عن المسيحيين. ويريد في الوقت نفسه أن يذكر شيئاً عن الطريقة الحقيقية التي مات بها كرشنا ليوفِّق، حسب وجهة نظره بين الحقيقة وبين غرضه، حتى يعتبر نفسه صادقاً فيما رواه، فكشف بذلك عن سوء نيّته وتزويره للحقائق دون أن يدري. فما العلاقة بين الحربة والنبلة؟ وما العلاقة بين صيّاد الطيور ومن يستعمل الحربة؟ وما الداعي لإيراد عبارة «وهو مصلوب» بعد كلمة «بالنبلة»؟ هل هذا هو موضعها الصحيح، أم أنها حُشرت في هذا الموضع حشراً، لمجرد لفت النظر إليها؟ وهل كان الصلب معروفاً في الهند أم كان معروفاً في بلاد الرومان وحدها، كما يقول المؤرخون؟.
وليعرف القارئ شيئاً عن الكيفية التي مات بها كرشنا، حتى يتضح له تلفيق المعترض للحقائق، نقول إن الأساطير الهندية ذكرت أن كرشنا كان يسير مرة على شاطئ نهر، وكان بجوار الشاطئ غابة يدخلها الصيادون من وقت إلى آخر لصيد الطيور والحيوانات، فحدث مرة أن أخطأ أحدهم المرمى، فنفذت حصاته، كما يقول بعض الرواة، أو سهمه، كما يقول بعض آخر، إلى مقتلٍ من كرشنا، فسقط لساعته على الأرض ومات.
أما القول إن كرشنا قد قال للصياد: «إذهب أيها الصياد محفوفاً برحمتي إلى السماء مسكن الآلهة» فليس له أساس في الأساطير. وهو دليل على أن المعترض قد اقتبس من الإنجيل قول المسيح للص التائب: «اليوم تكون معي في الفردوس»، وصاغه بما يتفق مع الرواية التي اختلقها، ليتقن الدور الذي يريد تمثيله.
(د) ولا يتسع لنا المجال للرد على كل عبارة من عبارات المعترض الباقية، ولذلك نكتفي بالقول إنها كلها مختلقَة، فالأساطير الوثنية لم تذكر مطلقاً أنه عند موت كرشنا حدثت مصائب، أو أنه هو الذي يدين الأموات، أو أنه إله الآلهة ورب الأرباب، أو أنه كان وديعاً، أو أنه غسل أرجل البرهميّين، أو أن وجهه قد ضاء مرة، أو... أو... الأمر الذي يدل بوضوح على أن المعترض، أراد أن يُلبس كرشنا ثوب المسيح، على الرغم من التناقض الذي لا حدَّ له بينهما، ليوهم البسطاء أن العقائد المسيحيّة مقتبسة من الوثنية.
المراجع:
عوض سمعان، الله طرق إعلانه عن ذاته، ألمانيا، الطبعة الأولى، ١٩٩١.