إنّ ادّعاء ديدات أنّ المسيح كان يخطط لانقلاب
يذكر ديدات أنَّ المسيح خطَّط لانقلاب خلال الأسبوع الأخير الذي أمضاه في أورشليم، ولكن التخطيط فشل! وتحت عنوان «انقلاب لم يتم» يقول ديدات: «آماله الضخمة لن تتحقق. انتهى العَرْض نهاية هزيلة».
وإنها بالتأكيد مفاجأة لكل المسيحيين والمسلمين أن يسمعوا لأول مرة بعد ما يقرب من عشرين قرناً أنَّ المسيح كان يخطّط لانقلاب سياسي! مع أنَّ المسيح كان يحرص باستمرار أن يتجنّب التورّط في السياسة! لقد رفض أن يقحم نفسه في مناقشة حول أحقية دفع الضرائب للرومان المستبدين (لوقا ٢٠: ١٩-٢٦)، كما انسحب من وسط الجموع حينما أرادوا أن ينصّبوه ملكاً سياسياً (يوحنا ٦: ١٥)، وعلَّم تلاميذه ألاَّ يسعوا وراء سلطة سياسية (لوقا ٢٢: ٢٥-٢٧).
لقد بذل اليهود كل ما في استطاعتهم لإقناع بيلاطس الحاكم الروماني أنَّ المسيح كان يدعو لثورة ضد قيصر (لوقا ٢٣: ٢) ولكن بيلاطس لم يقتنع! بل حتى ديدات نفسه يناقض نفسه ويقول إنَّ هذه التهمة «كانت تهمة زائفة» وإنَّ المسيح يبدو غير مسبِّب لأي خطر. ولم يكن مشاغباً سياسياً، ولا إرهابياً معادياً للنظام. ثم يقول: «لقد كانت مملكته روحية، وكانت رياسته لها كي ينقذ أمته من الرذيلة والانحلال».
لذلك يبدو أمراً بالغ الغرابة أن نجده يحاول في موضع آخر أن يثبت أنَّ المسيح كان في الحقيقة يدبّر لانقلاب سياسي ليخلّص اليهود من مستعمريهم. لكن تعليقاته - ودون أن يدري - سحبت البساط من تحت أطروحته ونظريته، إذ اعترف أنَّ المسيح لم يكن يخطط لثورة.
على أنَّ هذه النظرية لا يقرُّها عقل! ومع ذلك فإنَّ ديدات حاول برهنتها بإشارته إلى قول المسيح لتلاميذه (عند القبض عليه) إنهم يجب أن يبيعوا ثيابهم ويشتروا سيفاً (لوقا ٢٢: ٣٦).
ويفسر ديدات هذا القول بأنَّ المسيح كان يدعوهم للتسلُّح والاستعداد «للجهاد» و «الحرب المقدسة»! على أنَّ إجابة التلاميذ على تعليق المسيح تبيّن خطأ ديدات، فقد أجابوا: «يَا رَبُّ، هُوَذَا هُنَا سَيْفَانِ. فَقَالَ لَهُمْ: يَكْفِي!» (لوقا ٢٢: ٣٨).
ومن المستحيل أنَّ سيفين «يكفيان» لتدبير ثورة! فمن الواضح أنَّ المسيح كان يعني: «يكفي من هذا!» (أي من عدم فهمكم لما أقول). ولكن لأنَّ ديدات يحاول إقناع قرائه أنَّ المسيح كان يخطط لانقلاب، أجهد نفسه مجادلاً بأنَّ سيفين كانا كافيين للإطاحة بكل النظام اليهودي في إسرائيل، ثم بمستعمريهم الرومان.
وكما هو متوقَّع، فهو يلجأ هارباً إلى الخيال، محاولاً الإيحاء أنَّ تلاميذ المسيح كانوا «مسلَّحين بعصيّ وحجارة» كغوغاء متمردين. ولا يوجد في الإنجيل أيُّ دليل يؤيد هذا الزعم الذي يثيره ديدات، ومرة أخرى يناقض ديدات نفسه بغير فطنة! فلو أنّ المسيح كان يقصد أن يسلّح تلاميذه يكون التلاميذ قد فهموه تماماً. على أنّ الحقيقة هي أنهم أساءوا فهمه.
والدليل على ذلك موجود في نصّ الإنجيل، فالمسيح يقول: «فَلْيَبِعْ ثَوْبَهُ وَيَشْتَرِ سَيْفاً. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ فِيَّ أَيْضاً هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ: وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ لأَنَّ مَا هُوَ مِنْ جِهَتِي لَهُ ٱنْقِضَاءٌ» (لوقا ٢٢: ٣٧).
والمسيح هنا يقتبس ما ورد في سفر إشعياء أصحاح ٥٣، وهو أصحاح نبوي كُتب حوالي سبعمائة سنة قبل المسيح، تنبأ إشعياء بآلام المسيا نيابة عن شعبه، وقال إنه سيقدّم نفسه ذبيحة خطية.
والآية الكاملة التي اقتبسها المسيح هي: «لِذٰلِكَ أَقْسِمُ لَهُ بَيْنَ ٱلأَعِزَّاءِ وَمَعَ ٱلْعُظَمَاءِ يَقْسِمُ غَنِيمَةً، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سَكَبَ لِلْمَوْتِ نَفْسَهُ وَأُحْصِيَ مَعَ أَثَمَةٍ، وَهُوَ حَمَلَ خَطِيَّةَ كَثِيرِينَ وَشَفَعَ فِي ٱلْمُذْنِبِينَ» (إشعياء ٥٣: ١٢).
وقال المسيح بوضوح إنّ هذه النبوة كانت على وشك أن تتحقق فيه، ومعناها واضح بكل جلاء.
سوف «يسكب للموت نفسه» في اليوم التالي على الصليب، وسوف «يُحصَى مع أثمة» (وقد تمَّ صلبه بين لصّين - لوقا ٢٣: ٣٣)، وأيضا سوف «يحمل خطية كثيرين» لما قدّم نفسه كفّارة عن خطايا العالم على الصليب وسوف «يشفع في المذنبين». لقد صلى من أجل قاتليه وهو على الصليب (لوقا ٢٣: ٣٤).
ومن أجل عمل النعمة هذا فإنّ الله سيعطيه «مِنْ تَعَبِ نَفْسِهِ يَرَى وَيَشْبَعُ» (إشعياء ٥٣: ١١). كما سوف يعطيه «غنيمة انتصاره» - نبوّة صريحة عن قيامته من الأموات.
يتجاهل ديدات كل تصريحات المسيح، لأنها تتعارض مع غرضه! لكن من الواضح أنّ المسيح كان يتوقع صلبه وموته وقيامته من الأموات كمخلّص للعالم، وأنّه لم يكن يخطط لانقلاب. كانت الأحداث الوشيكة الوقوع ستأخذ المسيح من بين تلاميذه، وكانت تحريضاته لهم ليشتروا «أكياساً ومزاود وسيوفاً» تعبيراً دارجاً نصحهم به ليستعدّوا لكسب معيشتهم عندما يفارقهم.
ترتكز نظرية ديدات عن الانقلاب الفاشل على زعمه أنّ دخول المسيح أورشليم قبل ذلك بأسبوع واحد، وسط جمع من التلاميذ يهللون له كالمسيا، كان زحفاً نحو أورشليم. ويقول: «أخفق الزحف نحو أورشليم».
وتحت عنوان «زحف نحو أورشليم» يسلم ديدات أنّ المسيح دخل المدينة بصورة رمزية راكباً على جحش، وليس الجحش وسيلة انتقال تصلح لانقلاب، ولكن المسيح اختار هذه الوسيلة لأنّ الجحش يرمز للسلام وليونة الطبع، وقد أراد بذلك أن يُظهر لأورشليم أنه قادم إليها في مهمّة سلام متمّماً وعد الله المسجَّل في نبوّة أخرى جاءت من قرون عديدة ماضية: «ابْتَهِجِي جِدًّا يَا ٱبْنَةَ صِهْيَوْنَ، ٱهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ٱبْنِ أَتَانٍ» (زكريا ٩: ٩).
لقد جاء في وداعة وسلام راكباً حيواناً يرمز إلى غرضه «وَيَتَكَلَّمُ بِٱلسَّلاَمِ لِلأُمَمِ». هكذا تستمر النبوة في سفر زكريا ٩: ١٠. فما أسخف وما أغرب لا معقولية زعم ديدات أنّ المسيح كان على رأس «زحف» أو أنه كان يحرّض على «كفاح مسلَّح» عنيف حسب ما يحدث في أيامنا هذه!
ويتجاهل ديدات - حسبما يمليه عليه هدفه ويناسبه - أنّ المسيح وهو على وشك أن يُقبض عليه سأله تلاميذه: «يَا رَبُّ، أَنَضْرِبُ بِٱلسَّيْفِ؟» (لوقا ٢٢: ٤٩). وضرب واحد منهم عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه. ولكن المسيح وبَّخ تلميذه وشفى الرجل الذي جُرح.
وفي هذا برهان على أنّ المسيح لم يكن يخطط لانقلاب مدمّر بأي حال من الأحوال، ولكنه قدَّم أسمى لفتة حب للعالم، وهو الذي جاء ليموت على الصليب من أجل خطايا الإنسان، تحقيقاً للنبوة القديمة «وَأُزِيلُ إِثْمَ تِلْكَ ٱلأَرْضِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ» (زكريا ٣: ٩).
لقد حلَّ هذا اليوم، وكان المسيح يعدّ نفسه «ليتمم فداءً أبدياً» (عبرانيين ٩: ١٢) بحَمل خطايا العالم في يوم الجمعة العظيمة، والذي لأجله قد جاء.
إنّ ادّعاء ديدات أنّ المسيح كان يخطط لانقلاب فاشل إهانة بالغة لجلال نعمة المسيح، وتهكُّم سيّء لا يتوقعه إنسان من ديدات الذي يُفْترض فيه أنّه يؤمن أنّ المسيح من أعظم الرجال الذين عاشوا على مرّ العصور.
وواضح من كتابة ديدات أنه لم يؤدِّ أي تدريبات عسكرية. وجهله بهذا الميدان ينكشف حيث يزعم أنّ المسيح اصطحب بطرس ويعقوب ويوحنا معه إلى بستان جثسيماني كخط دفاع داخلي، بينما كان يحرس البوابة ثمانية آخرون. ويزعم ديدات أنّ هذا كان تكتيكاً بارعاً «يستحق أن يُكرّم من أجله أي ضابط تخرّج من ساند هرست - وهي أكاديمية عسكرية ذائعة الصيت في إنجلترا». ويستطرد قائلاً إنّ المسيح أخذ معه بطرس ويعقوب ويوحنا «هؤلاء المملوئين غيرة، والمتطرفين في الحماسة ليجهّز خط دفاعه الداخلي.
ولكن جدل ديدات يتداعى أمام التحليل الدقيق. لقد كان بطرس ويعقوب ويوحنا صيادي سمك مسالمين من الجليل (كان واحد فقط من تلاميذ يسوع يُدعى الغيور ولكنه لم يكن أحد هؤلاء الثلاثة - لوقا ٦: ١٥) ولقد كانوا الدائرة الأقرب له من بين تلاميذه طوال فترة خدمته. ففي مناسبة التجلي صعد هؤلاء الثلاثة فقط معه الجبل، بينما اختلط باقي التلاميذ بالجماهير أسفل الجبل (متى ١٧: ١، ١٤-١٦). وحينما أقام المسيح ابنة يايرس من الموت، اصطحب معه نفس التلاميذ الثلاثة إلى داخل المنزل (لوقا ٨: ٥١). وهذا يُظهر لنا بوضوح أنّ المسيح لم يكن يخطّط لدفاع بارع في جثسيماني عندما اصطحبهم معه إلى داخل البستان. لقد كان ينشد رفقتهم في مناسبة هامة لأنهم الصُّحبة الحميمة وأقرب تلاميذه إليه. كل هذا يُظهر بصفة قاطعة أنّ نظرية ديدات أنّ المسيح يخطط لانقلاب، هي كلام خالٍ من المعنى وغير معقول.
المراجع:
جون جلكريست، صلب المسيح حقيقة لا افتراء، الطبعة الأولي، 1999.