«مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَٱلأَعْمَالُ ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي» (يوحنا ١٤: ١٢)
«وَبَعْدَ ذٰلِكَ عَيَّنَ ٱلرَّبُّ سَبْعِينَ آخَرِينَ أَيْضاً، وَأَرْسَلَهُمُ ٱثْنَيْنِ ٱثْنَيْنِ أَمَامَ وَجْهِهِ إِلَى كُلِّ مَدِينَةٍ وَمَوْضِعٍ حَيْثُ كَانَ هُوَ مُزْمِعاً أَنْ يَأْتِيَ. فَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ ٱلْحَصَادَ كَثِيرٌ، وَلٰكِنَّ ٱلْفَعَلَةَ قَلِيلُونَ. فَٱطْلُبُوا مِنْ رَبِّ ٱلْحَصَادِ أَنْ يُرْسِلَ فَعَلَةً إِلَى حَصَادِهِ. اِذْهَبُوا. هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ مِثْلَ حُمْلانٍ بَيْنَ ذِئَابٍ. لا تَحْمِلُوا كِيساً وَلا مِزْوَداً وَلا أَحْذِيَةً، وَلا تُسَلِّمُوا عَلَى أَحَدٍ فِي ٱلطَّرِيقِ. وَأَيُّ بَيْتٍ دَخَلْتُمُوهُ فَقُولُوا أَوَّلاً: سَلامٌ لِهٰذَا ٱلْبَيْتِ. فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ ٱبْنُ ٱلسَّلامِ يَحِلُّ سَلامُكُمْ عَلَيْهِ، وَإِلا فَيَرْجِعُ إِلَيْكُمْ. وَأَقِيمُوا فِي ذٰلِكَ ٱلْبَيْتِ آكِلِينَ وَشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ، لأَنَّ ٱلْفَاعِلَ مُسْتَحِقٌّ أُجْرَتَهُ. لا تَنْتَقِلُوا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ. وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَقَبِلُوكُمْ، فَكُلُوا مِمَّا يُقَدَّمُ لَكُمْ، وَٱشْفُوا ٱلْمَرْضَى ٱلَّذِينَ فِيهَا، وَقُولُوا لَهُمْ: قَدِ ٱقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ وَأَيَّةُ مَدِينَةٍ دَخَلْتُمُوهَا وَلَمْ يَقْبَلُوكُمْ، فَٱخْرُجُوا إِلَى شَوَارِعِهَا وَقُولُوا: حَتَّى ٱلْغُبَارُ ٱلَّذِي لَصِقَ بِنَا مِنْ مَدِينَتِكُمْ نَنْفُضُهُ لَكُمْ. وَلٰكِنِ ٱعْلَمُوا هٰذَا أَنَّهُ قَدِ ٱقْتَرَبَ مِنْكُمْ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ. وَأَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ يَكُونُ لِسَدُومَ فِي ذٰلِكَ ٱلْيَوْمِ حَالَةٌ أَكْثَرُ ٱحْتِمَالاً مِمَّا لِتِلْكَ ٱلْمَدِينَةِ» (لوقا ١٠: ١ ١٢).
لا شك أن عدداً كبيراً من الناس كان يتبع المسيح كتلاميذ له، كان من بينهم سبعون رجلاً يصلحون لأن يرسلهم للتبشير في القرى والمدن اثنين اثنين، وكلفهم أن يقدّموا للناس التعليم والشفاء، كما فعل لما أرسل الإثني عشر.
وبإرسالهم اثنين اثنين تظهر أهمية العمل أكثر مما لو ذهبوا أفراداً، فيشجع الواحد منهم الآخر ويصلِح أغلاطه، ويتناوبان في الكلام والأعمال. فلو زاد عدد كل فريق عن اثنين يثقلون على مضيفيهم، وتقلّ أماكن تبشيرهم.
وبمنحه إياهم قوة الشفاء يكتسبون انتباه الناس وثقتهم ومحبتهم، ويظهِرون اهتمام سيدهم بصالح الجميع، الزمني مع الروحي، ويبشرون بالملكوت الجديد الذي اقترب منهم، وبملك هذا الملكوت الذي أرسلهم أمامه.
وزوّد المسيح السبعين بمثل النصائح والإعلانات التي قدّمها للاثني عشر قبلهم، إلا أنه أضاف عليها وصيته أن لا يسلّموا على أحد في الطريق، لأن الوقت قصير، بالكاد يكفي للتعليم والشفاء.
ومن عاداتنا الشرقية أننا نكثر السلامات التي تضيِّع الوقت. وأوصاهم أيضاً أن يأكلوا ما يُقدَّم لهم دون سؤال أو اعتراض، وأن يهملوا الطقوس اليهودية في أمر المأكولات، لئلا تقف حاجزاً بينهم وبين الذين يقبلونهم في بيوتهم، وأردف هذا بقوله: «لأن الفاعل مستحق أجرته».
«فَرَجَعَ ٱلسَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ: «يَا رَبُّ، حَتَّى ٱلشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِٱسْمِكَ». فَقَالَ لَهُمْ: «رَأَيْتُ ٱلشَّيْطَانَ سَاقِطاً مِثْلَ ٱلْبَرْقِ مِنَ ٱلسَّمَاءِ. هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَاناً لِتَدُوسُوا ٱلْحَيَّاتِ وَٱلْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ ٱلْعَدُّوِ، وَلا يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ. وَلٰكِنْ لا تَفْرَحُوا بِهٰذَا أَنَّ ٱلأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ ٱفْرَحُوا بِٱلْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ» (لوقا ١٠: ١٧-٢٠).
نرجح أن السبعين مبشراً رجعوا تدريجياً، لكنهم رجعوا جميعاً بنغمة الفرح مع شيء من التعجُّب. يظهر أن السلطان الذي منحه المسيح لهم لم يتناول إخراج الشياطين، فلما شرعوا بإخراج الشياطين أيضاً ونجحوا فاض ابتهاجهم، حتى كان خبر هذا النجاح يشغل المحل الأول في تقاريرهم لمرسِلهم.
قالوا: «يا رب، حتى الشياطين تخضع لنا باسمك». فلماذا اسم المسيح وليس اسم اللّه؟ وأي فعلٍ لمجرد الاسم، ما لم يكن المسيح معهم روحياً، رغم غيابه عنهم جسدياً؟
في جواب المسيح عليهم نبّههم إلى أن نجاحهم راجع إلى العمل الإِلهي في طرد إبليس من السماء التي سقط منها بسبب كبريائه.
كأنه يقول لهم: أنتم رأيتُم فشل بعض الجنود، ولكني رأيت فشل رئيسهم وسقوطه. رأى المسيح بروح النبوَّة سقوط الشيطان التام في المستقبل، فسيأخذ المسيحُ إبليس أسيراً، ذلك الذي طالما أسر البشر لإرادته. لطالما قيَّد إبليسُ البشر بقيودِ الطبيعة المفسدة والعادات الذميمة.
من لقبه «رَئِيسَ هٰذَا ٱلْعَالَمِ» (يوحنا ١٦: ١١) تظهر مملكته.. ومن لقبه «سُلْطَانِ ٱلْهَوَاءِ» (أفسس ٢: ٢) يظهر مسكنه.. ومن لقبه «سُلْطَانِ ٱلظُّلْمَةِ» (كولوسي ١: ١٤) يظهر نوع أعماله.. ومن لقبه «ٱلَّذِي يَعْمَلُ ٱلآنَ فِي أَبْنَاءِ ٱلْمَعْصِيَةِ» (أفسس ٢: ٢) يظهر مَنْ هُمْ رعاياه.
كان المسيح قد قال: «كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين، وباسمك صنعنا قوات كثيرة؟
فحينئذ أصرح لهم: إني لم أعرفكم قط. اذهبوا عني يا فاعلي الإثم» (متّى ٧: ٢٢ و٢٣). أفلا يعلمون أن نجاحهم في إخراج الشياطين محفوف بخطر الكبرياء، لأنه في الظاهر نتيجة عملهم، بينما النجاح الحقيقي الذي هو كتابة أسمائهم في السماوات هو عمل اللّه وهبة من نعمته المجانية؟ هنيئاً لهؤلاء الذين حقق المسيح لهم أن أسماءهم مكتوبة في السماء.
لكن هل لمجرد إنسان بشري حق أن يصرح لأناس مخصوصين أن أسماءهم مكتوبة في السماوات؟ ألا يوضح لنا هذا أن المسيح هو ابن الإنسان وابن اللّه معاً؟
فرح المسيح بخدمة أتباعه
«وَفِي تِلْكَ ٱلسَّاعَةِ تَهَلَّلَ يَسُوعُ بِٱلرُّوحِ وَقَالَ: «أَحْمَدُكَ أَيُّهَا ٱلآبُ، رَبُّ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ، لأَنَّكَ أَخْفَيْتَ هٰذِهِ عَنِ ٱلْحُكَمَاءِ وَٱلْفُهَمَاءِ وَأَعْلَنْتَهَا لِلأَطْفَالِ. نَعَمْ أَيُّهَا ٱلآبُ، لأَنْ هٰكَذَا صَارَتِ ٱلْمَسَرَّةُ أَمَامَكَ». وَٱلْتَفَتَ إِلَى تَلامِيذِهِ وَقَالَ: «كُلُّ شَيْءٍ قَدْ دُفِعَ إِلَيَّ مِنْ أَبِي. وَلَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَنْ هُوَ ٱلابْنُ إِلا ٱلآبُ، وَلا مَنْ هُوَ ٱلآبُ إِلا ٱلابْنُ، وَمَنْ أَرَادَ ٱلابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ». وَٱلْتَفَتَ إِلَى تَلامِيذِهِ عَلَى ٱنْفِرَادٍ وَقَالَ: «طُوبَى لِلْعُيُونِ ٱلَّتِي تَنْظُرُ مَا تَنْظُرُونَهُ، لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ أَنْبِيَاءَ كَثِيرِينَ وَمُلُوكاً أَرَادُوا أَنْ يَنْظُرُوا مَا أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ وَلَمْ يَنْظُرُوا، وَأَنْ يَسْمَعُوا مَا أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلَمْ يَسْمَعُوا» (لوقا ١٠: ٢١-٢٤).
في حياة المسيح كلها لم نقرأ أنه تهلل إلا في هذا الوقت، مع أننا نقرأ ثلاث مرات أنه بكى، وعدة مرات أنه انزعج أو اضطرب بالروح أو حزن.. تهلل لأنه رأى في غلبة تلاميذه على العدو، واستفادة الناس منهم، أعظم نجاح حصل إلى الآن في عمله. وفي تهلُّله اتجهت روحه طبيعياً، ليس نحو الناس، بل نحو الآب السماوي، فحمده بعبارات استعملها سابقاً.
ثم قال لهم على انفراد: «إن أنبياء كثيرين وملوكاً أرادوا أن ينظروا ما أنتم تنظرون ولم ينظروا، وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا»
لا نغفل الفائدة العظيمة التي حصلت لهؤلاء السبعين ولنا نحن أيضاً بواسطة إرساليتهم هذه. فعندما كلّف السبعين بالعمل الذي خصَّ به التلاميذ الاثني عشر سابقاً، علَّمنا أن التبشير ليس محصوراً في رجال الدين القانونيين، بل أن على كل مؤمن أن يكون مبشراً، وأن يخصص قسماً من أوقاته وأمواله للتبشير بالإِنجيل.
متى أدرك المسيحيون هذه الحقيقة، وعملوا بموجبها، يفعلون المعجزات الروحية. وقد قال عنها المسيح لتلاميذه: «مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَٱلأَعْمَالُ ٱلَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضاً، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي» (يوحنا ١٤: ١٢) والحمد للّه أن الشواهد على صدق هذا القول واضحة في تاريخ الكنيسة قديماً في زمان الرسل والآباء، وحديثاً في تاريخ انتشار الإِنجيل في بلدان كثيرة.
المراجع:
جورج فورد، سيرة المسيح الكتاب الخامس: جوهره واتِّباعه، الطبعة الأولى، ١٩٨٦.