هو نتيجة عمل الروح القدس الفائق للطبيعة في عقل ووجدان كُتّاب الكتاب المقدّس بحيث أنَّ إنتاجهم الكتابي لم يكن عملهم، بل في جملته هو كلمة الله.
وعد الله بحفظ كتابه المقدّس على مدى التاريخ البشري. أي أنّ الكتاب المقدّس بقي كما هو منذ أن أُوحِيَ به حتى اليوم. فالله الذي أوحى بالكتاب المقدّس، وعد بالحفاظ عليه، كما وطلب من جماعة المؤمنين العمل بأحكامه ووصاياه وإعلاناته على مدى الأجيال. ومن الأمثلة الكثيرة على وعد الله بديمومة كلمته نقرأ:
أولاً من العهد القديم
تثنية ٤: ٢ «لاَ تَزِيدُوا....وَلاَ تُنَقِّصُوا». ، تثنية ١٢: ٣٢ «لاَ تَزِدْ عَلَيْهِ وَلاَ تُنَقِّصْ مِنْهُ».، مزمور ١١٩: ٨٩ «إِلَى ٱلأَبَدِ يَا رَبُّ كَلِمَتُكَ مُثَبَّتَةٌ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ».، مزمور ١١٩: ١٥١-١٥٢ «كُلُّ وَصَايَاكَ حَقٌّ...إِنَّكَ إِلَى ٱلدَّهْرِ أَسَّسْتَهَا».، مزمور ١١٩: ١٦٠ «وَإِلَى ٱلدَّهْرِ كُلُّ أَحْكَامِ عَدْلِكَ».، أمثال ٣٠: ٥-٦ «كُلُّ كَلِمَةٍ مِنَ ٱللّٰهِ نَقِيَّةٌ. تُرْسٌ هُوَ لِلْمُحْتَمِينَ بِهِ. لاَ تَزِدْ عَلَى كَلِمَاتِهِ لِئَلاَّ يُوَبِّخَكَ فَتُكَذَّبَ».، إشعياء٤٠: ٨ «وَأَمَّا كَلِمَةُ إِلٰهِنَا فَتَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ». ، إرميا ١: ١٢ «لأَنِّي أَنَا سَاهِرٌ عَلَى كَلِمَتِي لِأُجْرِيَهَا».
ثانياً: من العهد الجديد
متّى ٥: ١٧-١٨ «لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ ٱلنَّامُوسَ ...لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِ».، متّى ٢٤: ٣٥ «اَلسَّمَاءُ وَٱلأَرْضُ تَزُولاَنِ وَلٰكِنَّ كَلاَمِي لاَ يَزُولُ».، لوقا ١٦: ١٧ «وَلٰكِنَّ زَوَالَ ٱلسَّمَاءِ وَٱلأَرْضِ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ تَسْقُطَ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ ٱلنَّامُوسِ».، يوحنّا ١٠: ٣٥ «وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُنْقَضَ ٱلْمَكْتُوبُ».، بطرس الأولى ١: ٢٣-٢٥ «...بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ ٱلْحَيَّةِ ٱلْبَاقِيَةِ إِلَى ٱلأَبَدِ... وَأَمَّا كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ فَتَثْبُتُ إِلَى ٱلأَبَدِ».، رؤيا ٢٢: ١٨-١٩ «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَزِيدُ عَلَى هٰذَا يَزِيدُ ٱللّٰهُ عَلَيْهِ ٱلضَّرَبَاتِ ٱلْمَكْتُوبَةَ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ. وَإِنْ كَانَ أَحَدٌ يَحْذِفُ مِنْ أَقْوَالِ كِتَابِ هٰذِهِ ٱلنُّبُوَّةِ يَحْذِفُ ٱللّٰهُ نَصِيبَهُ مِنْ سِفْرِ ٱلْحَيَاةِ، وَمِنَ ٱلْمَدِينَةِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، وَمِنَ ٱلْمَكْتُوبِ فِي هٰذَا ٱلْكِتَابِ».
وحي الكتاب المقدّس
تعريف كلمة «وحي» لغوياً
يقدّم لنا ابن منظور في معجمه «لسان العرب» معانٍ عديدة للفعل «وحى» وهي: أشار إلى، أرسل إلى، كلّم بالسِّر، ألهم، وضع في قلبه، أَمَرَ، وحَى إليه وأوحى تعني كلَّمه كلاماً.
الوحي يعني: الإلهام، الإشارة، الكتابة، الإيماء، الرسالة، الكلام الخفي، كل ما يلقيه الإنسان إلى غيره.
تعريف كلمة «وحي» لاهوتياً
توجد عدة تعاريف للوحي، وهذه التعاريف تتفاوت في عمقها ودلالتها، مع أنها تتفق في الجوهر على ما هو الوحي:
العملية التي حرّك الله بها أناساً وجعلهم يكتبون رسالته.
عملية حفظ إعلان الله للبشرية وذلك بتدوينه وجعله معروفاً على نطاقٍ واسع.
عملية إشراف الله على كُتَّاب الكتاب المقدّس البَشَرِيّين، بحيث أنَّهمُ دوّنوا وحفظوا بدون أخطاء رسالة الله للبشرية كما وردت في المخطوطات الأصلية.
هو التأثير الفائق للطبيعة للروح القدس على أشخاص اختارهم الله نفسه، بحيث أنّ ما كتبوه أصبح مصدر ثقة وذا سلطان.
هو تأثير الروح القدس الفائق للطبيعة على كُتّاب الكتاب المقدّس بحيث أن جعل من كتاباتهم سجلاً دقيقاً للرؤيا التي أعلنها الله عن نفسه، أو الذي جعل ما كتبوه عبارة عن كلمة الله.
هو نتيجة عمل الروح القدس الفائق للطبيعة في عقل ووجدان كُتّاب الكتاب المقدّس بحيث أنَّ إنتاجهم الكتابي لم يكن عملهم، بل في جملته هو كلمة الله. فالكتاب المقدّس لا يحتوي فقط على كلمة الله، بل هو كلمة الله بذاتها.
من جملة هذه التعاريف نستنتج ونلاحظ الأمور التالية:
- إنّ المُوْحي هو الله العامل بالروح القدس.
- أنّ عملية الكتابة نفسها تمت بإشراف وقيادة الله.
- أنّ عملية الوحي هي عملية تفوق الطبيعة، فالوحي من الله.
- أنّ أناساً عاديين ومختارين من الله قاموا بعملية التدوين، وبالتالي فالعامل البشري لم يكن سلبياً بل إيجابياً، فطاعتهم وتجاوبهم مع الله جعلهم يكتبون.
- أنّ الوحي المكتوب هو بلا أخطاء، أي معصوم.
- أنّ النَّسخ من الأصل أو الترجمة من المخطوطات الأصلية ليست وحياً، فالكتابة الأصلية هي ما أوحي به.
- أنّ أسفار الكتاب المقدّس هي في مجموعها تشكّل وحياً من الله، وهي كلمة الله المكتوبة بعينها.
طبيعة الوحي
وحي الكتاب المقدّس هو وحي لفظيٌ (كتابيٌ) وتامٌ (مطلقٌ) ومعصومٌ عن الخطأ وخلاقٌ وفعالٌ. أي أنّ الكتاب المقدّس بجملته هو من الله، ولكن، وفي نفس الوقت، قام بخطّه بشر مثلنا، أي أنّ الكتاب المقدّس إلهي بالكامل وبشري بالكامل ومع ذلك فهو معصوم. لقد قام الروح القدس بقيادة كُتّاب الكتاب المقدّس أثناء الكتابة، ولكن كل كاتب كتب بحرّية وبأسلوبه الخاص، ولذلك فإنّ التنوّع في الكتاب هو بشري والوحدة إلهية.
لم يكن كُتّاب الكتاب المقدّس مجرد آلات في يد الله. فمثلاً لوقا عمل بجدّ واجتهاد في جميع المواد التي قام بكتابتها، وبولس الرسول كتب رسائله إلى جماعات وأفراد معيّنين آخذاً وضعهم الروحي والأخلاقي والاقتصادي والاجتماعي بعين الاعتبار.
إنّ قولنا بوجود عنصر بشري في كتابة الكتاب المقدّس لا يعني أبداً أنّ به أخطاء. فالله، الذي هو رب الجميع، قد عمل على تشكيل صفات وظروف الأشخاص الذين استخدمهم لكتابة وحيه، وقد زوّدهم بما يحتاجون إليه من حكمة ومواهب روحية وخلقية حتى يتمّموا بكفاءة فائقة مقاصد الله في تدوين الوحي.
كذلك فإنّ قولنا إنّ الكتاب المقدّس بكامله موحىً به من الله لا ينفي حاجتنا إلى بذل جهود روحية وعقلية من أجل فهم كلمة الوحي.
حقيقة الوحي
من خلال قراءتنا للكتاب المقدّس نلاحظ بأنّ مصدره هو الله، وأنّ ما نقرأه هو كلام الله بعينه. وشهادة الكتاب المقدّس هذه عن نفسه بأنّه من وحي الله، هي شهادة أساسية وأوّلية ويجب أخذها بعين الاعتبار وذلك قبل النظر في مصادر خارجية أو إثباتات مختلفة في مصداقية الكتاب المقدّس، سواء أكانت هذه المصادر والبراهين علمية أو تاريخية أو فلسفية أو أثرية أو اجتماعية. فاللجوء إلى المصادر الخارجية فقط لن يثبّت أبداً ما يصرّح به الكتاب عن نفسه بأنّه من مصدر إلهي، رغم أنّ هذه المصادر تبرهن لنا صدق ما في الكتاب وسمو أفكاره.
توجد في الكتاب المقدّس طرق عديدة تخبرنا أنّه من وحي الله القدير، ومن الأمثلة على ذلك:
وردت كلمة الوحي في العهد القديم في أيوب ٣٢: ٨ وهي كلمة «نشما» في اللغة العبرية والتي تعني نسمة أو نَفَس الله.
في العهد الجديد وردت الكلمة في ٢تيموثاوس ٣: ١٦ وهي كلمة «ثيوبنوستوس» في اللغة اليونانية والتي تعني متنفس به من الله.
ويمكن تلخيص الطرق التي يعلن بها الكتاب المقدّس أنّه من وحي الله في النقاط التالية:
شهادة العهد القديم عن نفسه
في أكثر من ٣٨٠٠ مناسبة في العهد القديم يعلن كُتّابَهُ أنّ ما قالوه وكتبوه هو كلام الله. وكثيراً ما نقرأ أنّ كلامهم قد ابتدأ بأقوالٍ مثل «هٰكَذَا يَقُولُ ٱلسَّيِّدُ رَبُّ ٱلْجُنُودِ» (إشعياء ١٠: ٢٤)، «فَكَانَتْ كَلِمَةُ ٱلرَّبِّ إِلَيَّ» (إرميا ١: ٤). ويستخدم حزقيال النبي كثيراً عبارة «فَقَالَ لِي يَا ٱبْنَ آدَمَ» (حزقيال ٢: ١، ٣، ٦، ٨) وفي هوشع ١: ١: «قَوْلُ ٱلرَّبِّ ٱلَّذِي صَارَ إِلَى هُوشَعَ بْنِ بِئِيرِي»، كذلك نقرأ في الأسفار التاريخية عن كلام الله مع الملوك والكهنة والأنبياء، وكيف أنّ وعظهم وخُطَبَهُم وأحاديثهم مع الشعب كانت مستمَدّة من الله.
شهادة العهد الجديد للعهد القديم
أشار كتّاب العهد الجديد إلى العهد القديم على أنّه كلمة الله وذو سلطان، فلا يوجد في العهد الجديد أيّ نقاش حول وحي وسلطة العهد القديم، بل يوجد موافقة وقبول وتسليم تام بأنّ العهد القديم هو فعلاً كلمة الله. فلم يكن العهد القديم بالنسبة لهم مجرد سلسلة من القصص ومجموعة من الشرائع، بل كان رسالة الله الموجَّهة للعالم بلغة بشرية، ومن الأمثلة على ذلك نجد في أعمال الرسل ١: ١٦ أنّ الكنيسة الأولى ومنذ بداية تكوينها قد فهمت وقبلت العهد القديم على أنّه من وحي الله، وأنّ ما ورد فيه من نبوّات يجب أن تتم لأنها قيلت وكُتبت بوحي الرّوح القدس على فم داود حيث نقرأ: «...كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتِمَّ هٰذَا ٱلْمَكْتُوبُ ٱلَّذِي سَبَقَ ٱلرُّوحُ ٱلْقُدُسُ فَقَالَهُ بِفَمِ دَاوُدَ...». ونفس الفكرة بأنّ الله تكلّم واستخدم ألسنة الأنبياء موجودة في أعمال الرسل ٣: ١٨، ٢١؛ ٤: ٢٥؛ ٢٨: ٢٥، أي أنّ ما كُتِبَ في العهد القديم هو ما قاله الله.
شهادة العهد الجديد عن نفسه
في الواقع أنّ سلطان المسيح وكذلك سلطة الرسل التي استمدّوها من المسيح للتبشير والوعظ والتعليم بقيادة الروح القدس، تشكّلان الضمانة الأكيدة على أنّ العهد الجديد هو كلام الله الموحى به للعالم، ولكنّ كُتّاب العهد الجديد لا يتوقفون عند سلطان المسيح وسلطانهم ليدِلّوا على وحي كتاباتهم، بل إنهم يصرّحون مراراً كثيرة بأنّ ما كتبوه وعلّموه هو كلام الله، ولعلّ أوضح تعليم عن وحي العهد الجديد هو ما يقوله بطرس الرسول في رسالته الثانية ٣: ١٥-١٦ " وَاحْسِبُوا أَنَاةَ رَبِّنَا خَلاَصًا، كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ أَخُونَا الْحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضًا بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَهُ، كَمَا فِي الرَّسَائِلِ كُلِّهَا أَيْضًا، مُتَكَلِّمًا فِيهَا عَنْ هذِهِ الأُمُورِ، الَّتِي فِيهَا أَشْيَاءُ عَسِرَةُ الْفَهْمِ، يُحَرِّفُهَا غَيْرُ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ الثَّابِتِينَ، كَبَاقِي الْكُتُبِ أَيْضًا، لِهَلاَكِ أَنْفُسِهِمْ." حيث نجده هنا يضع رسائل بولس مع بقية كتب العهد القديم، مما يدل على أنّه زمن كتابة بطرس لرسالته أصبح لرسائل بولس الرسول نفس سلطة كتب العهد القديم، وعلى أنها تُقرأ في أماكن العبادة مثل العهد القديم.
شمولية الوحي
نقرأ في رسالة تيموثاوس الثانية ٣: ١٦ قول بولس الرسول بالوحي: «كُلُّ ٱلْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ ٱللّٰهِ». وهذا يشمل الأسفار الستة والستين الموجودة معنا اليوم. كذلك فإنّ هذا القول يشير إلى أنّ كل الكتاب، وليس فقط مقاطع محدّدة منه، موحى به من الله نافع للبشرية جمعاء.
المراجع:
أبو داود، الكتاب المقدس (دراسة موجزة في معرفة ووحي وعصمة الكتاب المقدس)، الطبعة الاولي، 1997.