لم يستطع أن يتخيل أبدًا أن هذا الإله الخالق يمكنه أن يحب بلا مقابل أن يغفر مجانا: «هذا ليس عدلا» يقول الإنسان الناقم!!
نما الإنسان في الأديان البدائية وعنده إدراك لبعض الحقائق التي تكاد تجمع عليها كل الديانات البدائية هذه، كما تؤكد العديد من الدراسات الأنثروبولوجيا (الإنسانية). ومن هذه الإدراكات المشتركة نمت بعض الممارسات الهامة في العبادة. ويذكر کتاب The World's Religions (Lion Publishing، وهو لمؤلفين مسيحيين: «تقريبا كل القبائل البدائية الموجودة حاليا مازالت تستعمل الذبائح الحيوانية (ص ۳۸) . ويشرح الكتاب أسبابا عديدة لممارسة تقديم الذبائح عند هذه الديانات - سواء الباقي منها أو المندثر في التاريخ (ص ٣٠، ،۳۲ ،۳۱ ٩٥ – ١٣٥ )
يقدم الإنسان الذبيحة لتمثل الإنسان لدي الإله أو للتقرب والمصادقة.
يقدم الإنسان الذبيحة ليسترضي الإله أو يتقي شر الأرواح التي تتحكم في الطبيعة وتسبب الكوارث المميتة والمهلكة.
تقدم الذبيحة كثمن قانوني لمصلحة أو بركة يطلبها الإنسان من هذا الإله، أي لشراء» ما يحتاجه الإنسان مثلاً لنمو محصوله أو النصر في حرب.
وفي الإلياذة Epic of Homer تقدم الذبيحة لترجي الإله أن يغير من قراره أو رأيه، وللإله أن يقبل هذه «الرشوة» أو يرفضها!!
وفي ديانات آسيوية The Konds، أو كما يسمون أنفسهم Kui تقدم الذبائح البشرية لتشرب الأرض دمائها حتى ما ترضى على الإنسان وتقدم له الخير. وهذه الذبيحة تذكرنا بعروس النيل التي كانت تلقي كفتاة جميلة حيّة كهدية لنهر النيل في العبادة المصرية قديما!!
ولكن لماذا كل هذا الشعور بأن الإله «يحتاج» لشيء أو لذبيحة ليسترضي؟
الإجابة تكمن في إحساس الإنسان بفارق رهيب وهوة عظيمة بين ما يريد أن يكون وما هو كائن بين المثالية والكمال الذي يشتاق الإنسان إلى تحقيقه وبين واقعه المؤسف الهزيل. اشتياق الإنسان للخلود والكمال اشتياق لا يهدأ وعطش لا يرتوي بأي شيء يملكه أو يعمله. ولكن يقابل هذا الاشتياق إلى أعلي، واقع يشد الإنسان إلى أسفل أسماه الإنسان الشر والخطية.
ويسعى الإنسان بكل جوارحه في هذه الديانات لعبور هذه الهوة العظيمة بين الاشتياق الكامل والواقع الناقص. لذلك يبحث الإنسان عن وسيلة يتقرب بها إلى الخالق المسؤول عنا جميعًا، لعلنا نسترضيه ويحلنا من واقعنا المؤسف لحرية وحياة ونجاح، بل وخلود، أفضل (= الخلاص). ولكن بسبب أن المسألة ليست سهلة والاشتياق عال، حاول الإنسان أن يقدم أقوي ما عنده، هدية لاسترضاء هذا الإله. وليست هناك تقدمة أقوي من الحياة ذاتها. وبما أن الدم هو علامة الحياة من الكائن الحي، كان الدم والذبيحة أقوي وأغلي ما يقدمه الإنسان.
ولكن الإنسان في سعيه وحده نحو الإله الخالق يتصور هذا الإله كما لو كان مثل الإنسان يحتاج ويسأل ويغضب على الإنسان والخليقة، ويدمر إذا غضب، وينتقم من المخلوق إذا لم يطعه، ويحكم عليه بالموت بتدبيره واشتياقه كخالق، صاحب الحق في إفناء ما قد بصنع بيديه، كما يصنع الإنسان!!!
ودخل الإنسان في دائرة شريرة يري فيها نقائصه ويأسه، ولذا لم يستطع أن يتخيل أبدًا أن هذا الإله الخالق يمكنه أن يحب بلا مقابل أن يغفر مجانا: «هذا ليس عدلا» يقول الإنسان الناقم!! لأن الإنسان لو قبل أن الله يغفر مجانا وبدون احتياج إلى استرضاء، ينقلب نظام الإنسان رأسًا على عقب!! الإنسان، محب للانتقام ورد الشرف والكرامة، لا يقبل على الله أن يغفر مجانا أبدًا!! لماذا؟! مع أن الإنسان يعلم أنه دائما الجاني، وأن عقوبة الشر سوف تسقط عليه؟! الإجابة تكمن في أن: الله هو «مثال» الإنسان الأعلى والإنسان في بدائيته وشره، التي يسميها الكتاب المقدس الإنسان العتيق أو الجسداني أو الترابي.... الخ، لا يمكنه أن يتنازل عما يملكه من أشياء أو كرامة مجانا!! أبدًا لا يستطيع والسبب أن هذا التنازل المجاني يؤكد للإنسان ويذكره بنقصه وموته وفنائه الذي يخشاه بشدة!! لذلك يجب على الإنسان في حالته الشريرة أن يتصور الله مثل الإنسان، بعد التكبير والتعظيم. لذلك قال فولتير قولته الشهيرة عن كيف يحاول الإنسان أن يعكس ويسقط فشله على الله:
«لقد خلق الله الإنسان على صورته، والإنسان رد له المثل»!!
لو استطاع الإنسان أن يفهم معنى «المغفرة المجانية» بدون خوف من نقص أو موت لحل ملكوت الله على الأرض في ثانية زمن!! ولجاء الرب من علاه وانقضى الزمن في أبدية الحب! ولكن للأسف الشديد جدا، حتى عندما جاء الله من علوه ليؤكد لنا الغفران المجاني فسر الإنسان موت الابن المتجسد والواهب الحياة لنا، على أنه ذبيحة «احتاج» إليها الله لتسدد له ثمنًا قانونيًا وتحقق مطلبه العادل، أي موت الإنسان الخاطئ أو من ينوب عنه، حتى تسترضي عدالة الله وكرامته المهانة بالشر، وعندئذ فقط - بعد استلامه للثمن - يمكنه أن يرحم!!! تحولت هدية الله لنا إلى شراء قانوني، تم لمصلحة عدالة إلهية غاضبة تطالب بموت!!
هذا تعليم أنسلم أسقف كانتربري الكاثوليكي في القرن ۱۱، وقد ورث مارتن لوثر قائد حركة الإصلاح البروتستانتي في القرن ١٦ التفسير ذاته، وسلمه للكنيسة الغربية. ثم لتأكيد عجزنا كبشر عن تفهم رسالة البذل المعطي لنا نحن وليس لمصلحة الله وعدالته أكدت الكنيسة الكاثوليكية هذا التعليم في مجمع TRENT في القرن ١٦، على أنه هو بعينه العقيدة الرسمية «للكنيسة الكاثوليكية!!! ومما يؤسف له دخول هذه الأفكار إلى التعليم الأرثوذكسي في القرن الأخير بعد ظهور حركات التبشير الغربية في الشرق في القرنين الأخيرين. هذا الحديث وهذه الحقائق المؤسفة يؤكدها جُل اللاهوتيين الأرثوذكس في العالم،
مشكلة الإيمان أن الله يغفر مجانا، بلا ثمن تكمن في أن إلها مثل هذا لا يناسب العدل البشرى عدل النقمة ورد الشرف والتعويض - عدل العين بالعين وكسر الذراع بكسر ذراع الآخر! هذا إله مكلف جدًا، ومعرفته مكلفة جدا!! كما قلت الله هو مَثَلُنا الأعلى. فإن كنا أمناء ولنا ضمير حي ونتبع هذا الإله، وجب علينا أن نغفر مجانا في كل موقف يصيبنا فيه ضرر أو ظلم.
المرجع
كتاب العدالة الإلهية حياة لا موت ... مغفرة لا عقوبة. (د. هاني ميخائيل)