بعد استشهاد البابا "فابيانوس"، أصدر الكهنة والشمامسة، الذين أشرفوا على إدارة كنيسة روما أثناء غياب البابا عنها، بیان أطلعوا فيه المؤمنين على خبر الاستشهاد
القديس "قبريانوس" هو اللاهوتي القرطاجي الثاني بعد "ترتوليانوس"، أظهر صفات مميزة تنبع منها المحبة واللطف والاحتراس والتعقل، كما يذكر القديس "ايرونيموس" في كتابه "الرجال العظام، 53"، حيث يقول: "لم یکن قبريانوس ينهي يومه دون أن يقرأ ترتوليانوس، ولطالما ردد على مسمع أمين سره: أعطني المعلم، قاصداً بذلك ترتوليانوس".
حياته ونشأته
ولد "سيسيليوس قبريانوس" ما بين سنة ۲۰۰ و ۲۱۰ ، في مدينة قرطاجة بتونس، من أبوين وثنيين شريفين وغنيين، لأن والده كان أحد أعضاء مجلس الشيوخ الروماني، فتلقى تربية تليق بمستواه الإجتماعي، ودرس الآداب والفلسفة، خصوصاً وأن دراسة الآداب كانت ملفتة للنظر في ذلك الزمن، فاكتسب شهرة واسعة، وابتدأ بتدريس البيان والبلاغة، فكان محجة كل طالب علم ومعرفة، غير أن حياة الفسق والفجور، سواء في الميدان الخاص أو العام، قد أدخلت في نفسه شعوراً بالتقزز والاشمئزاز، وأتعبه الفساد المستشري داخل أجهزة الحكم والإدارة، فلبى نداء النعمة وبحث عما هو أعلى وأطهر وأوفر ترفعاً عن المباهج الدنيوية.
إعتناقه المسيحية
بتأثير الكاهن "سيسيليوس"، الذي أخذ اسمه بعدئذ تيمناً به، إعتنق الديانة المسيحية ووزع ثروته على الفقراء، وبعد إعتناقه المسيحية بوقت قصير، سيم كاهناً، وفي سنة ۲٤۸ أو مطلع سنة ۲٤۹م، أنتخب أسقفاً على مدينة قرطاجة "بصوت الشعب"، على الرغم من معارضة عدد من الكهنة، الذين هم أقدم منه في السلك الكهنوتي، وعلى رأسهم الكاهن "نوفات"، وما أن قام بمهام مسؤوليته الأسقفية في خلال أقل من سنة، حتي اندلعت مذابح الاضطهاد الذي أعلنه الامبراطور "داسيوس" سنة ۲٥۰م، وتجاه هذا الأمر، وبنصيحة الكهنة والمؤمنين المقربين منه، قصد مكاناً أميناً وبقي على علاقة بالاكليروس التابع له، من خلال إتصالات متلاحقة.
بعد استشهاد البابا "فابيانوس"، أصدر الكهنة والشمامسة، الذين أشرفوا على إدارة كنيسة روما أثناء غياب البابا عنها، بیان أطلعوا فيه المؤمنين على خبر الاستشهاد هذا، ثم كتبوا في الوقت عينه، رسالة يستغربون فيها هرب أسقف قرطاجة، وللحال قَدَّم "قبريانوس" تقريراً مفصلاً عن نشاطه الرعوي، وعن الأسباب التي دعته إلى إتخاذ قرار الإبتعاد، فقال: "رأيت من الضروري أن أوجه إليكم هذه الرسالة ؛ كي أطلعكم على سبب إبتعادي عن القطيع، رغم إندفاعي وتعلقي بإيماني وبنظام كنيستي، فمنذ بداية المذابح، والرعاع من الشعب يصرخون بعنف ويطالبون بي، عندئذ وحسب تعاليم المخلص، ومراعاة مني لسلامة الجماعة كلها، وليس لسلامتي الشخصية، إبتعدت لوقت معین، خشية أن يضاعف وجودي الاضطرابات، غائباً بالجسد فقط، ولكنني موجود بالروح، ومن خلال أعمالي ونصائحي، ولقد حاولت بقدر ما تسمح لي بذلك قدراتي الضئيلة، وكلما تسنت لي الفرصة ؛ أن أدير شؤون أخوتي، بما يتوافق ووصايا السيد"
بعث "قبريانوس" بهذه الرسالة ؛ ليثبت أنه لم يتخل عن واجباته كراع، وأما محتوى هذه الرسائل ؛ فيبين مدى الصعوبات التي طرأت في خلال تلك الفترة على مدينة "قرطاجة"، وعلى القرطاجيين.
وباء الطاعون
بعد أيام قليلة تفشی وباء الطاعون، فتسبب بآلام جديدة وباضطهادات جديدة، عانى منها المسيحيون، إذ حملهم الوثنيون ما زعموا أنه غضب الآلهة، لكن إندفاع "قبريانوس" في خدمة المرضى، والمساعدة العطوفة التي قدمها للذين طالتهم المأساة، أسهما إلى حد بعيد في تهدئة سخط الوثنيين.
مشكلة الجاحدين
بعد فصح سنة ٢٥١م، إذ عاد السلام إلي الكنيسة، ورجع الأسقف إلي كرسيه، بدأ يكرّم الشهداء، وجمع حوله المعترفين الذين تألّموا من أجل الإيمان، وجاءت رسائله تحمل مزيجًا من الفرح الشديد بالشهداء والمعترفين، وأيضًا الذين هربوا حتى لا يجحدوا الإيمان، مع الحزن المرّ علي الجاحدين، طالب الجاحدين أن يقدموا توبة بتواضع، معترفين بخطاياهم، إذ داسوا إكليل الشهادة بأقدامهم، وقد ترك باب التوبة مفتوحًا أمام الجميع،لكن بغير تهاون.
لقد حرص علي تأكيد أمومة الكنيسة ؛ التي تلد المؤمنين وتربيهم وتؤدبهم، وتقدم لهم الحضن الأبوي.
مجمع قرطاجنة
في عام ٢٥١م عقد أساقفة إفريقيا مجمعًا بخصوص هذا الشأن ؛ لدراسة موقف الجاحدين الراجعين، فقد إرتد البعض عن الإيمان علانية، وقدم آخرون رشوة للقضاة الوثنيين، وأخذوا منهم شهادة بأنهم قدموا ذبيحة للآلهة، وقد أكد القديس لهم أن مثل هذه الشهادة ؛ إنماهو نوع من النفاق، فندم كثيرون علي ما فعلوه.
شدد المجمع علي رجال الدين الذين جحدوا الإيمان، إذ قبلوهم بين الشعب مع عدم العودة إلي عملهم الكهنوتي، أما أصحاب الشهادات الوثنية، فقبلهم المجمع بعد وضع قوانين يلتزمون بها.
معمودية الهراطقة
لم تعترف كنيسة أفريقيا بمعمودية الهراطقة، شاركتها في ذلك كنيسة نوميدية في ثلاثة مجامع عقدت في قرطاجنة في السنتين 255 و256م، كتب الأب اسطفانوس أسقف روما، خطابًا شديد اللهجة مهددًا إياه بالقطع بسبب ذلك، فلم يعبأ القديس كبريانوس بالخطاب، وقد استشهد الاثنان في عام 258م.
إضطهاد فاليريانوس
في هذا الوقت بالذات أصدر الأمبراطور "فاليريانوس" (Valerianus) مرسومه ضد المسيحيين، وأثناء المذابح التي نتجت عن المرسوم الإمبراطوري، إستشهد البابا "اسطفانوس"، وصدر أمر بنفي "قبريانوس" إلى "كوروبيس" ، كان ذلك في الثلاثين من آب سنة ۲٥۷م، قضي القديس مدة سنة في المنفي علي بعد نحو 50 ميلاً من قرطاجنة، حيث كتب الكثير عن الإستشهاد، ولما عزل أسباسيانوس عن منصبه، وخلفه غاليريوس ماكسميانوس، رجع القديس إلي قرطاجنة وهو مشتاق إلي إكليل الشهادة في بلده وسط شعبه، وقد حقق الله له أمنيته.
إستشهاد القديس قبريانوس
أرسل الحاكم الجنود وألقوا القبض عليه، وفي الصباح مضي به الجنود إلي الوالي، وكما يقول فونتيوس إنه كان يجري في سيره نحو المسيح ؛ كما يجري المصارعون المجاهدون، وإنه كان يتوق إلي التمتع بمعمودية الدم، كما كان يردد الكلمات التالية: "هناك، فوق فقط يوجد السلام الحقيقي، والراحة الأكيدة الدائمة الثابتة، والأمان الأبدي… هناك بيتنا فمن لا يسرع إليه؟"
أسرعت الجماهير بأعدادٍ لا حصر لها، وقد اختلطت مشاعرهم بين الفرح بالأسقف المحب للشهادة والحزن، وكان الكل يودعونه، أما هو فوقف في هدوء ورزانة متحليًا بروح الرجاء والإيمان، سمع الأسقف الحكم عليه بالإعدام بالسيف في دار الولاية، وهو يردد: "الشكر للَّه، وأشكر الله وأباركه".
تبعته الجموع إلي مكان الاستشهاد خارج المدينة، وهناك خلع ثوب الكهنوت وسلمه لشماسه، وألقي كلمة صغيرة يعزّي بها شعبه، ثم جثا علي ركبته مصليّا، وإذ رأي السياف مرتعدًا ؛ قدّم له خمس قطع ذهبية تشجيعًا له، ثم عصب عينيه بيديه ليُسلم نفسه في يديّ مخلصه، وكان ذلك في 14 سبتمبر سنة 258م، فنال إكليل الشهادة..
من كتاباته
إن عيني الخنزير اللّتين تنظران دائمًا إلي أسفل، لا تستطيعان رؤية عجائب السماء، وهكذا أيضًا النفس التي يدفعها الجسد إلي أسفل، لا تستطيع أن ترفع بصرها لتري الجمال العلوي.
إنها تتجه إلي الأشياء الوضيعة الحيوانية، إن النفس التي تريد أن تكرّس نظرها إلي المباهج السماوية، تضع ما هو أرضي وراء ظهرها، ولا تشترك فيما يورطها بالحياة الدنيوية.
إنها تحيل كل قوي الحب فيها ؛ من الأمور المادية إلي التأملات العقلية، في الجمال اللامادي.
إن بتولية الجسد تفيد مثل هذه النفس، تهدف البتولية إلي أن تخلق في النفس نسيانًا كاملاً للشهوات الطبيعية، وتمنع عملية النزول باستمرار لتلبية الرغبات الجسمية، ومتى تحرّرت النفس مرة من مثل هذه الأمور، لا تخاطر بالمباهج السماوية غير الدنسة ؛ لتكون جاهلة غير ملتفتة إليها، وتمتنع عن العادات التي تورط الإنسان، فيما يبدو إلي حد ما أن ناموس الطبيعة يسلم به...
المراجع:
قبريانوس القرطاجي، موسوعة عظماء المسيحية في التاريخ (9)، الاب جورج رحمة (الراهب الانطوني)، الطبعة الاولي، 1993.
قاموس آباء الكنیسة وقدیسيها مع بعض الشخصیات الكنسیة، الحرف (ك)، القمص تادرس یعقوب ملطي والقس یوسف یوسف حلیم، 1985م.