تتلمذ أثناسيوس على أيدي معلمي الإسكندرية العظام وتعلم منهم المنطق والخطابة والبلاغة والفلسفة اليونانية والقانون الروماني والأسفار الإلهية
كلمة أثناسيوس مكونة من مقطعين: الأول هو A وهو أداة النفي في اللغة اليونانية والثاني: هو THANIOS بمعنى المائت فيكون معنى الاسم هو غير المائت أو الخالد.
ويعتبر القديس أثناسيوس هو المحور الذي كانت تدور حوله الكنيسة واللاهوت في العصر النيقاوى، وقد لقب بالـ “الكبير” عن جدارة تأكدت بالاضطهادات والآلام التي تحملها سنينًا طويلة في مقاومة أخطاء شنيعة تحصنت أحيانًا بسلطان الامبراطور، وما التعبير المشهور “أثناسيوس وحده صار ضد العالم وصار العالم كله ضده” إلاّ تعبير جيد عن جرأته الفريدة الحرة وأمانته التي لا تهتز من جهة ما يؤمن به
نشأة أثناسيوس:
ولد القديس أثناسيوس في الإسكندرية سنة 256 م. وتوفي والده وهو في سن صغير فأرسلته أمه إلى مدرسة للمسيحيين وكان يراهم وهم يتعبدون فيميل قلبه لهم، وذات يوم كان يمثل مع زملائه الصغار على شاطئ البحر شعائر المعمودية وراءهم البابا الكسندروس وهم يعمدون بعضهم ويؤدون الشعائر بكل دقة فنادى البابا الكسندروس الأطفال وسألهم عما كانوا يفعلون فقالوا أنهم كانوا يؤدون شعائر التعميد بناء على اقتراح زميلهم أثناسيوس الذي كان يقوم بدور الأسقف وقام بتعميد الأطفال فرشح أثناسيوس وبعض الأولاد الذين اشتركوا معه أجراء هذه الشعائر إلى رتبة الكهنوت ولم يكن حين إذ عمر أثناسيوس تجاوز الثانية عشر.تتلمذ أثناسيوس على أيدي معلمي الإسكندرية العظام وتعلم منهم المنطق والخطابة والبلاغة والفلسفة اليونانية والقانون الروماني والأسفار الإلهية ثم ذهب إلى الصحراء حيث قضى ثلاث سنوات مع الأنبا أنطونيوس وفى هذه الفترة كتب كتابين عن:
بطلان الأوثان.
وحدانية الله.
موقف أثناسيوس من بدعة آريوس:
عاد أثناسيوس إلى الإسكندرية وكان يؤدى خدمته الشماسية على خير وجه وفي ذلك الحين ظهرت بدعة آريوس فتجمع ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفًا في نيقية ليضعوا أسس للإيمان، واصطحبه البابا ألكسندروس معه إلى المجمع وتحدث أثناسيوس في المجمع وأفحم آريوس وسمى بطل كنيسة المسيح وأختير وقتها للبطريركية في سنة 44 ورسم بابا سنة 327 م.) في عهد قسطنطين قيصر وكان عمره وقتها 28 سنة ووضع عليه الأيدي لأول مرة خمسون أسقفًا.
وبعد عدة سنوات بعث البابا إلى معلمه الأنبا أنطونيوس رسالة كي يغادر عزلته ويتجه مع رهبانه إلى الإسكندرية ليقف في وجه أريوس وأعوانه ولبى الأنبا أنطونيوس نداء تلميذه فبادر بالذهاب إلى الإسكندرية في جماعة من أبنائه الرهبان لمقاومة البدعة ومبدعيها.
ادعاءات أريوس وأعوانه على القديس أثناسيوس
ظل آريوس يحارب أثناسيوس بشتى الصور ومن ضمن تلك الادعاءات:
ادعائه أن أثناسيوس كسر كأس القس اسكيرا وهدم مذبحه.
أنه قتل الأسقف أرسانيوس واستخدم ذراعيه في السحر.
أنه اغتصب أيضا راهبة.
وقد برأ البابا نفسه من التهمة الأولي وانعقد مجمع في صور ضد البابا أغلبه من الأريوسيين ونظر المجمع في التهم ففي الأولي حرك الرب قلب القس اسكيرا الذي اتفق معهم على شهادة الزور وبرأ البابا. وفي التهمة الثانية حضر الأسقف أرسانيوس عن اتفاقهم الذي اتهم البابا زورا بقتله فحفظه البابا في غرفة مجاورة وكان الأريوسيين قد أحضروا ذراعي ميت. وادعوا أنهما لأرسانيوس ولكن أرسانيوس أظهر ذراعيه للجمع وأظهر ندامته فقال الأريوسيون أن أثناسيوس سحار استطاع أن يوجد ذراعين وهاجوا ضده فخرج أرسانيوس من وسطهم ومضي للملك.
ثم نظرت تهمة الراهبة وأتوا بفاجرة ادعت هذا الادعاء علي القديس فقال القس تيموثاوس من حاشية البابا "كيف تتجاسرين وتقولين اني نزلت ببيتك وقهرت إرادتك؟" فظنت أنه أثناسيوس لأنها لم تكن تعرفه وقالت: "أنت هو" افتضح أمرها.
وبعد براءة أثناسيوس من هذه الادعاءات حاول اتباع آريوس قتله فهرب من مجمع صور فانتهزوا الفرصة وحكموا عليه بالعزل من كرسيه ونفى إلى مدينة تريف بعد أن اتهمه الآريوسيين انه كان يمنع تصدير الغلال من الإسكندرية إلى القسطنطينية، وأرسل قسطنطين إلى أسقف القسطنطينية ليقبل آريوس في كنيسته، فرفض في أول الأمر لأنه جرد من رتبته الكهنوتية بواسطة مجمع مسكوني لذا يجب أن يعيده مجمع مسكوني ولكن مع الضغط وافق وسمح له أن يقيم الصلاة في كنيسته أول يوم من أيام الآحاد ولحرص القديسين والكهنة وخاصة القديس الكسندروس علي الإيمان المسيحي صاموا جميعًا سبعة أيام وفى نهاية هذه المدة كان اليوم المحدد لاشتراك آريوس في الصلاة والخدمة الكنسية، بينما كان آريوس سائرًا في هذا الموكب في شوارع المدينة أصابه إسهال شديد فقذف من جوفه مواد كثيرة حتى أمعاءه كلها ومعها خرجا نفسه الشريرة، وبعد وفاة آريوس ومعرفة الملك بما حدث أراد إعادة أثناسيوس ولكن المنية وأتته فاقتسم ولداه الملكة بينهما فاستولى قسطنس الأزيوس على الشرق وأما قسطنطين القويم الإيمان فملك على الغرب واستدعى أثناسيوس وطيب خاطره وزوده برسالة وبعثه إلى شعبه في الإسكندرية مكرما وحاول اتباع آريوس أن يطردوه من مركزه فبعثوا بشكاوى إلى يوليوس أسقف رومية تتضمن أنه رجع إلى كرسيه بلا قرار مجمع.
بعث الأسقف الروماني بهذه الشكوى إلى أساقفة مصر فاجتمع ثمانون أسقفاً وأرسلوا إلى اسقف روما يكذبون ما وصل إليه وأما الآريوسيين فعقدوا مجمعًا في إنطاكية تحت رئاسة أوسابيوس نصير آريوس الذي كان أسقف القسطنطينية وقتئذ فحكموا فيه بخلع أثناسيوس وأقاموا بدلًا منه رجلًا يدعى غريغوريوس الكبادوكي فجاء الكبادوكي وبرفقته فيلاغورس معتمد الملك بجند إلى الإسكندرية وكان أثناسيوس قد هرب قبل الفصح إلى رومية ليؤيدا احتجاجات مجمع أساقفته ويبرر نفسه مما نسبه إليه الآريوسيين وعندما وصل إلى رومية عقد أسقفها مجمعا مكون من 70 أسقف وطلب أن يحضر في مجمع إنطاكية فلم يجيب المجمع على هذه الدعوة واعتبرها تعديًا عليه فما كان من أسقف رومية إلا أن عقد مجمعًا من مائة وخمسون أسقفًا وفى هذا المجمع قرأت رسالة أساقفة مصر التي برئوا فيها البابا أثناسيوس وظل أثناسيوس سنة ونصف في روميه وضع فيها أسس نظام الرهبنة للرومانيين، ثم عقد مجمع سرديكا سنة 345 م. واصدر قرارًا ببراءة البابا أثناسيوس وتثبيت قانون الإيمان الذي تم بمجمع نيقية وحكموا بعزل غريغوريوس الكبادوكي. ثم دعى الملك قسطنس البابا أثناسيوس برسالة إلى مدينة أكويلا،
رجوع البابا أثناسيوس
استقبل الشعب البابا باحتفال عظيم وفرحة لا توصف وما كاد البطريرك يستريح من السفر حتى استأنف نشاطه لمحاربة بدعة أريوس وخلع الأساقفة الأريوسيين ثم نشر رسالة في عيد القيامة سنة 347 م. وبدأها بشكر للرب على رجوعه إلى مقامه، وفى سنة 350 م. قتل الملك قسطنطين على يد رجل جرماني يدعى ماثياس وقد أراد هذا الرجل الاستيلاء على الشرق فأرسل منشورا إلى مصر يدعوها فيه للتمرد على القيصر وكان يريد الاستيلاء عليها ولكن البابا أثناسيوس بحكمته حال دون ذلك إذا أوصى الشعب بالخضوع للإمبراطور وبعد أن استقل قسطنس بالملك وجه حربة إلى البابا أثناسيوس واحتال في بادئ الأمر علية ليعيده إلى رتبته كي يسهل عليه الانتقام منه، وكانت رغبة الإمبراطور هي محاكمة أثناسيوس فنفاه خارج البلاد.
وقام الإمبراطور بتكليف سريانوس الأمر للبابا ولكن البابا رفضه لأنه لا يوجد لديه أمر كتابي يثبت ذلك وبعد أسابيع كان القديس يصلى بالكنيسة صلاة الغروب وشعر بالحصار للكنيسة حيث حاصرها خمسة ألف من الجنود سنة 356 م. وأخذه المؤمنين بالقوة إلى خارج الكنيسة وأخفوه وكتب الشعب شكوى للإمبراطور عن قسوة الوالي ولكن الإمبراطور امتدحه بدلًا من أن يعاقبه ولذلك كره الشعب الوالي والإمبراطور وقد اختفى البابا في المدينة فترة ثم ذهب إلى الصحراء انفرد في مغارة للعبادة مع رهبانه ببرية طيبة وكان يرسل إلى المؤمنين برسائل ليثبت أيمانهم، وفى ذلك الحين كان الأريوسيون قد أشاروا على قسطنس أن يكتب رسالتين لملكي الحبشة أزاناس وسازاناز يخبرهما فيها أن البابا أثناسيوس هو طوقي وسيامته لفرومينتيوس أسقف الحبشة باطلة وينبغي أن يرسلا أسقفهما لينال الرسامة الصحيحة من جورجيوس، ولم يعبأ أي من ملكا الحبشة برسالة قسطنس لثقتهما بأثناسيوس.
وأثناء وجود القديس أثناسيوس في الصحراء بعث إليه الأنبا سرابيون أسقف أتمي ينبئه فيها بظهور بدعة جديدة ابتدعها مقدونيوس أسقف القسطنطينية مؤداها أن الروح القدس مخلوق، فحزن أثناسيوس حزنًا شديدًا، فأسرع بالكتابة للدفاع عن الأيمان مثبتًا لاهوت الروح القدس الذي هو أحد الأقانيم الثلاثة معتمدًا على آيات الكتاب المقدس والتسلسل المنطقي وكانت لهذه الكتابات أثرها البالغ في النفوس مما أدى إلى إخماد هذه البدعة.
رجوع الأنبا أثناسيوس من الصحراء
بعد اغتيال الأسقف الدخيل وصل أثناسيوس أذن الإمبراطور يوليانوس بالعودة إلى عاصمته فقرر أن يعود فاستقبله الشعب على ضفتيّ النيل بالترانيم المتصاعدة حيث انه كان على ظهر سفينة في النيل عائدًا "من الصحراء".
وبدا الاضطهاد من جديد حيث أن الإمبراطور يوليانوس أعلن جحوده اله المسيحيين واخذ يطارد أثناسيوس الذي رجع إلى الإسكندرية واختبأ في قبر أبيه وبعد مضى ستة أشهر عرف أن أثناسيوس لم يغادر المدينة مطلقًا وكان يوليانوس مشغولًا بالاستعداد لمحاربة الفرس فاكتفى بإصدار أمر بتتبع أثناسيوس ومطاردته، فغادر أثناسيوس المدينة ولجأ إلى الصحراء حيث عاش متنقلا بين أديرتها وعجز جنود يوليانوس على العثور عليه.
قتل بعد ذلك يوليانوس الجاحد وتولى يوليانوس شئون المملكة واصدر أمر برجوع أثناسيوس وجميع الأساقفة الآخرين وبعث الإمبراطور برسالتين إلى الأنبا أثناسيوس الأولى يوضح فيها إعجابه به والثانية يسأله أن يوضح له الإيمان القويم فرد عليه البابا برسالة يوضح فيها الإيمان القويم.
بعد ذلك بفترة قام الأنبا أثناسيوس برحلة رعوية وبعد عودته وجد أن الإمبراطور فالنس أشعل نار الاضطهاد على المسيحيين وأمر بنفي جميع الأساقفة فثارت ثائرة الشعب، وعندما كان الوالي يفكر في محاولة الإمساك بالبابا كان الشعب يثور أكثر وأكثر رغم ما يعانيه من مصادرة الأموال والإرهاب والحريق، وذات يوم أثناء الليل اتجه الجنود إلى الكنيسة التي كان يقيم فيها الأنبا أثناسيوس للإيقاع به ولكنهم وجدوا الكنيسة خالية ولا يوجد بها أحد حيث أن أنصار البابا في البلاط اخبروه بما اعتزم الوالي فعله، فاخذ يسير في الشوارع ثم توجه للعيش في قبر أبيه، في تلك الفترة ثارت ثائرة الشعب وأثاروا الشغب وأدرك الإمبراطور إنه لن يعم السلام إلا إذا عاد الأنبا أثناسيوس إلى منصبه، وبالفعل عاد الأنبا أثناسيوس بعد أربعة أشهر من اختفائه وما لبث أن عاد أثناسيوس إلى الإسكندرية.
عند عودة البابا إلى الإسكندرية وجد أن صديقه أبوليناريس أسقف اللاذقية قد وقع في بدعة مؤداها أن المسيح مجرد من النفس العاقلة لأن ناسوته كان من جوهر لاهوته، فقام القديس أثناسيوس بوضع ثلاث مجلدات لمحاربة هذه البدعة بنفس المنطق والوضوح الذي حارب به البدعة الآريوسية ولم يذكر اسم صديقه أبوليناريوس لحبه الشديد له.
وحافظ القديس أثناسيوس على السلام لمدة خمسة أعوام وفى نهاية السنين الخمسة انتقل إلى بيعة الأبكار في 7 بشنس سنة 373 م.. وانتهت حياة هذا البطريرك العظيم وهى حياة طويلة حيث قضى في رئاسة الكهنوت خمسًا وأربعين سنة عاصر خلالها "ست عشر إمبراطورًا".
وقد عبر باسيليوس في رسائله إلى أثناسيوس عن شعوره باحترام ومديح بلا حدود نحو أثناسيوس. كما دافع أثناسيوس عن أرثوذكسية باسيليوس في مواجهة المشككين فيها إذ قال عنه إنه “أسقف تتمنى أى كنيسة أن يكون هو أسقفها”
المراجع:
تاريخ البطاركة في الكنيسة القبطية، البابا أثناسيوس الأول، موقع الأنبا تكلا هيمانوت، 328 - 373 م
قاموس آباء الكنيسة وقديسيها مع بعض شخصيات كنسية، للقمص تادرس يعقوب ملطي
رسالة 63 إلى القديس بالاديوس