كان سؤال الفريسيين للرب يسوع استفهاماً منهم عما إذا كان يؤيد مذهب شمعي الضيق أو مذهب هليل المتحرر
في ضوء ما ورد عن الزواج المسيحي باعتباره اقتران رجل واحد بامرأة واحدة مدى حياتهما في إطار المحبة والإخلاص والشركة الكاملة، وأن شريعة الزواج بهذه الصورة تتفق مع مشيئة الله الكاملة من البدء، من هنا نستطيع أن ندرك سر معارضة المسيحية للطلاق. ويتأكد هذا الفكر عندما ندرس أقوال السيد المسيح التي تعتبر الطلاق أمراً لا ينسجم مع إرادة الله الكاملة للإنسان.
أحاديث المسيح عن الطلاق
وما دمنا قد أشرنا إلى كلام السيد المسيح عن الطلاق، فمن الضروري أن ندرس الظروف التي تحدث فيها المسيح عن هذا الموضوع لأنها تلقي ضوءاً على هذه القضية، وتساعدنا على فهم الأبعاد المختلفة لفكر السيد المسيح فيها.
يروي متّى البشير في إنجيله ص ١٩ أن الفريسيين جاءوا إلى يسوع ليجربوه قائلين له: «هَلْ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُطَلِّقَ ٱمْرَأَتَهُ لِكُلِّ سَبَبٍ؟» (مت ١٩: ٣) - وأبعاد هذا السؤال يمكن فهمها عندما نعلم أنه كان عند اليهود مذهبان في إباحة الطلاق، أحدهما ضيق والآخر متحرر. كانت الشريعة اليهودية تبيح الطلاق في ظروف معينة، وقد ورد في ناموس موسى: «إِذَا أَخَذَ رَجُلٌ ٱمْرَأَةً وَتَزَوَّجَ بِهَا، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْهِ لأَنَّهُ وَجَدَ فِيهَا عَيْبَ شَيْءٍ، وَكَتَبَ لَهَا كِتَابَ طَلاقٍ وَدَفَعَهُ إِلَى يَدِهَا وَأَطْلَقَهَا مِنْ بَيْتِهِ...الخ» (تث ٢٤: ١) - وقد اختلف علماء اليهود في تفسير العبارة: إن لم تجد نعمة في عينيه لأنه وجد فيها عيب شيء... قد كان هناك مذهب المعلم شمعي وهو مذهب ضيق يقول: إن العيب هو الزنا فقط، ولا يجوز الطلاق لغير هذا العيب وكان هناك مذهب المعلم هليل وهو مذهب واسع توسع في تفسير العيب لدرجة أن بعضهم قال: إن إفساد طعام الزوج عيب يبيح الطلاق، وذكر بعضهم عيوباً أخرى تبيح الطلاق مثل السير بشعر غير مضفور؛ أو الحديث مع الرجال في الطريق، أو عدم احترام والدي الزوج في حضوره، أو الحديث بصوت عال يمكن أن يصل إلى سمع الجيران وهكذا...
كان سؤال الفريسيين للرب يسوع استفهاماً منهم عما إذا كان يؤيد مذهب شمعي الضيق أو مذهب هليل المتحرر، وبذلك يدخلونه في خلافاتهم. وهذا هو السبب في أن متّى كتب يقول إن الفريسيين جاءوا إليه ليجربوه..
أما جواب يسوع فكان أن أعاد الأمور إلى بدايتها الطبيعية، ولم يدخل معهم في تفسير العبارة التي وردت في الناموس بل رجع بأفكار الناس إلى الحالة المثالية عند الخليقة، فقال إن الله خلق آدم وحواء، رجلاً واحداً، وامرأة واحدة. ويقول الرب يسوع إن هذه الصورة التي نراها في آدم وحواء هي النموذج لما ينبغي أن يكون عليه كل زواج يأتي بعدهما، ومن الواضح أنه في حالة آدم وحواء لم يكن الطلاق مجرد أمر مكروه أو غير جائز بل كان مستحيلاً لأنه لم يكن في العالم إلا رجل واحد وامرأة واحدة.
وهنا يضع الرب يسوع أمامنا القاعدة العامة وهي أن كل طلاق يُعتبر أمراً غير طبيعي وخطأ. ومن هذه النقطة وجد الفريسيون فرصة ليهاجموا يسوع باعتباره يناقض في نظرهم تشريع موسى الذي يجيز الطلاق، وهذا معنى قولهم: «فَلِمَاذَا أَوْصَى مُوسَى أَنْ يُعْطَى كِتَابُ طَلاقٍ فَتُطَلَّقُ؟» (متّى ١٩: ٧) وكان جواب يسوع «إِنَّ مُوسَى مِنْ أَجْلِ قَسَاوَةِ قُلُوبِكُمْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تُطَلِّقُوا نِسَاءَكُمْ. وَلٰكِنْ مِنَ ٱلْبَدْءِ لَمْ يَكُنْ هٰكَذَا» (متّى ١٩: ٨) بمعنى أن موسى لم يضع لهم قانوناً يأمرهم بالطلاق، لكنه سمح به فقط حتى ينظم الوضع الذي كانوا هم يفسدونه بسبب طبيعتهم الشريرة الضعيفة الساقطة.
وقد استرسل الرب يسوع بعد ذلك فذكر القاعدة التي تتفق مع الفكرة المثالية عن الزواج فقال
«وَأَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ ٱمْرَأَتَهُ إِلا بِسَبَبِ ٱلزِّنَا وَتَزَوَّجَ بِأُخْرَى يَزْنِي، وَٱلَّذِي يَتَزَوَّجُ بِمُطَلَّقَةٍ يَزْنِي» (متّى ١٩: ٩). وعندما نقارن هذا القول برواية كل من مرقس ولوقا لهذه القاعدة نلاحظ أن رواية متّى هي وحدها التي تشير إلى السماح بالطلاق لعلة الزنا. ويفسر بعض الشراح عدم الإشارة إلى إباحة الطلاق لعلة الزنا عند مرقس ولوقا أنهما افترضا هذا الأمر افتراضاً لأنه كان أمراً طبيعياً عند اليهود. ويقول آخرون إن السيد المسيح قصد فعلاً ألا يسمح بالطلاق لأي سبب، بينما يقول رأي ثالث أنه لم يكن في قصد المسيح أن يضع تشريعاً خاصاً للطلاق، وأن حديثه كان شرحاً للصورة المثالية للزواج وهي ارتباط الزوجين مدى حياتهما.
وقد عبّر أحد المفسرين عن هذه الحقيقة بهذا التعبير الحاد: إن تعاليم المسيح بدون وجود المسيح الدائم تصير أمراً مستحيلاً، لا بل تصبح صورة مثالية تبعث على العذاب لأنها تصير غير ممكنة. إن قول المسيح عن الزواج ينبغي أن يُفهم جيداً وهو غير ممكن إلا للمسيحي الحقيقي فقط.
هل تعليم المسيح مبدأ أخلاقي أم تشريع قانوني؟
هناك من يأخذون كلمات السيد المسيح على أنها قانون حرفي ويمنعون الطلاق لأي علة. فمتى كان الزواج صحيحاً فلا يحق لأيّ إنسان أن يفرق ما جمعه الله. وهؤلاء يواجهون موضوع استحكام الخلاف بين الزوجين بما يسمى الانفصال الجسماني بمعنى التفريق بين حياة الزوجين معاً دون انحلال الزواج الذي يرون أنه لا ينحل إلا بموت أحد الطرفين.
وهناك من يتمسكون أيضاً بالنص حرفياً، ولكنهم يسمحون بالطلاق لعلة الزنا مستندين إلى ما جاء في إنجيل متّى من أقوال المسيح. على أن الطلاق في هذه الحالة لا يكون واجباً بسبب هذه العلة، فلا ينحل الزواج بمجرد الزنا، ولكنه ينحل إذا طلب الطرف البريء ذلك، لكن هناك من يتملكهم روح الغفران المسيحي فيسامحون ولا يطلقون رغم سقوط الطرف الآخر في هذه الزلة.
والذين يدعون لمنع الطلاق يستندون في ذلك إلى أقوال السيد المسيح باعتبارها تشريعاً للحياة الزوجية، ويضيفون إلى ذلك أن إباحة الطلاق في حد ذاتها تشجع الناس على سوء التصرف للتحرر من الحياة الزوجية، ويرون أنه من العار أن تتنازل الكنيسة عن صفة دوام الزواج التي تميز العلاقة الزوجية في المسيحية وتضمن استقرار الأسرة المسيحية.
وفي ذات الوقت يتجه كثيرون من المفكرين إلى اعتبار تعليم السيد المسيح اتجاهاً روحياً أخلاقياً يدعو الناس إليه في إطار مبادئ ملكوت الله، إنما لا يقصد به وضع تشريع أو قانون وضعي للمعاملات الشرعية والمدنية. إن تعليم المسيح يصف مشيئة الله الكاملة التي يجب أن يهدف إليها كل مسيحي، ويطلب نعمة الله لتحقيقها؛ لكن السيد المسيح نفسه اعترف بالضعف الإنساني عند البشر لأجل هذا كان يطلب من الناس الاتضاع والندم والتوبة إلى الرب إذا عجزوا بسبب ضعفهم البشري عن تحقيق مشيئة الله الكاملة في حياتهم.
وإذا كانت حياة الزوجين تفتقر إلى المبادئ المسيحية الجوهرية فإن حرفية القانون لن تكون عائقاً أمامهما، وكم من زوج أو زوجة اعترفا إن صدقاً أو كذباً بارتكابهما خطية الزنا لكي يتخلصا طبقاً للنص الحرفي من ارتباط الزواج، غير عابئين بأثر هذا الاعتراف على حياتهما أو حياة أولادهما في المستقبل.
إن النظرة الناموسية الحرفية لا يمكن أن تحل مشكلات الزواج، ذلك لأن الحياة الزوجية ليست مجرد تعاقد قانوني، لكنها اتحاد شخصي وشركة محبة وعطاء؛ ولا يمكن علاج المشكلات الإنسانية الشخصية بمجرد التشريع الجامد، بل إن العلاج يستلزم نظرة شخصية وتغييراً في الحياة.
وإذا كان من الخطأ أن نحول مبدأ منع الطلاق إلى شريعة ناموسية، فإنه من غير المعقول أيضاً أن نجعل مثل هذه المبادئ الروحية أساساً لنصوص مواد قانون مدني وضعي تفرضه الدولة على الجميع سواء كانوا مسيحيين حقيقيين أو مسيحيين إسميين.
هذا فضلاً عن حقيقة هامة أخرى وهي أنَّ أية محاولة لصياغة المثل الأخلاقية المسيحية في قوانين وضعية تخضع لسلطان الدولة وجزاءاتها، يجعل هذه المثل تفقد طابعها الديني والأخلاقي. إن الباعث الأساسي للطاعة في الأخلاق المسيحية هو روح الشكر والامتنان والعرفان بجميل الله تعالى الذي أحبنا، وشعورنا بواجب الاتجاه نحوه بالحب والطاعة، لا خوفاً من عقاب، أو رغبة في ثواب - ولو أن هذا الباعث إستبدل بباعث آخر، أو أضيف إليه باعث آخر يختلف عنه، وهو محاولة تطبيق القانون والخضوع له خشية الوقوع تحت طائلة عقاب الدولة؛ فإن الطاعة هنا تفقد صفتها الروحية وصلتها بالدين، وتتحول إلى سلوك اجتماعي فحسب. والسلوك الاجتماعي السليم ضروري، لكنه لا يرقى إلى درجة السلوك الروحي، النابع من صفاء النفس في علاقتها بالله، وحساسية الضمير المستنير بروح الله.
المراجع:
القس. جون نور، الزواج في المسيحية، الطبعة الأولى، ١٩٩٨