سبحان من أظهر ناسوتُه سرَّ سنا لاهوته الثاقبة، ثم بدا لخلقه ظاهراً في صورة الآكل الشارب، حتى لقد عاينه خلقه كلحظة الحاجب بالحاجب
مقدمة
يظن بعض الناس أن الإسلام ينتقد عقيدة ظهور الله، ولكن الحقيقة غير ذلك، لأننا إذا رجعنا إلى القرآن وإلى كتب الدين والفلسفة الإسلامية، وجدنا أن ظهور الله يشغل جانباً كبيراً من هذه الكتب، كما يتضح مما يلي:
ظهور الله في حيِّز خاص
جاء في سورة طه «الرحمن على العرش استوى». وفي سورة الأعراف ٥٤ «ثم استوى على العرش» وقال بعض الفقهاء إن الاستواء في هاتين الآيتين معناه الرفعة. ولكن القدماء فهموا الاستواء فيهما بالمعنى الحرفي. لما سُئل مالك بن أنس عن معنى «الرحمٰن على العرش استوى» قال: «الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والايمان به واجب، والسؤال عنه بدعة». واني من جانبي أرى أن استواء الله على العرش مثل جلوس الله على العرش في المسيحية، يُراد به ظهوره بحالة تتفق مع مجده. ولا مجال للاعتراض على ذلك لأنه تعالى وإن كان لا نهاية له، إلا أن له تعيّناً خاصاً، وبما أن كل ما له تعيّن يمكن أن يظهر في مكان ما، إذن فمن الممكن أن يظهر الله في كل مكان، دون أن يتحيّز بهذا المكان أو ينحصر فيه، لأنه منزّه عن المكان والزمان.
وفي (البخاري ج٤ ص ٦٨) «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة في السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير، يقول من يدعوني فاستجيب له».
وإذا كان من المتفق عليه بين الفقهاء أن نزول المولى في السماء الدنيا في الوقت المذكور لا يمنع وجوده في كل مكان في ذلك الوقت، فلا غضاضة في اعتقاد المسيحيين بأنه تعالى مع وجوده في الجسد في وقت ما، كان في هذا الوقت في كل مكان، كما كان ويكون في غيره من الأوقات.
وجاء في سورة الحديد ٥٧: ٤ «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ». وفي سورة النحل ١٦: ١٢٨ «إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلَّذِينَ اتَّقَوْا». وفي سورة البقرة ٢: ١٥٣ «إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ». وفي سورة العنكبوت ٢٩: ٦٩ «وَإِنَّ ٱللَّهَ لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ». وفي سورة المائدة ٥: ١٢ «وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ». وفي صورة المجادلة ٥٨: ٧ «مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا».
وكانت «معيّة الله» موضوع بحث بين علماء الدين، فقال فريق منهم: «إن الله معنا بصفاته». وقال فريق آخر: «إنه معنا بذاته وصفاته، لأن صفاته ليست منفصلة عن ذاته، ولذلك يجب الاعتقاد بالمعيّة الذاتية. لكن معيّته ليست معيّة المتحيّزين، إذ أنه تعالى ليس مثل خَلْقه الموصوفين بالجسمية» (اليواقيت والجواهر ص ٦٧). وإذا كان الأمر كذلك، أرى أنه لا مجال لتأويل معنى المعيّة الإلهية (في الإسلام أو المسيحية) إلى معنى يختلف عن ذاك الذي يُفهم منها.
وجاء في سورة القيامة «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ». وجاء في صحيح البخارى: «قال صلَّى الله عليه وسلّم رأيت ربي في أحسن صورة». وقال لقوم: «إنكم سترون ربكم» فلما سألوه: «يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة» قال: «هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كان صحواً؟» قالوا: «لا». قال لهم: «فإنكم لا تُضارون في رؤية ربكم يومئذ» (صحيح البخاري ج٤ ص ١٩٧-١٩٩). وقال الآمدي: «اجتمعت الأئمة على أن رؤية الله في الدنيا والآخرة جائزة، وأقاموا الأدلة على ذلك بالعقل والنقل» (حاشية الأمير، على شرح الشيخ عبد السلام، على الجوهرة ص ٥٥).
ويقول البعض إن رؤية الله مستحيلة، لأنه لا حكم لمقياس الزمان أو المكان عليه. لكن وإن كان الله لا يخضع لحكم الزمان أو المكان، إلا أن له تعيّناً خاصاً، وكل من له تعيّن خاص يستطيع أن يُظهر ذاته بأي وجه من الوجوه.
وصف القرآن نور الله فقال: «ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلّزُجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ» (سورة النور ٢٤: ٣٥).
وجاء في الاحاديث: «قال صلَّى الله وعليه وسلَّم: وضع الله يده أو كفه على كتفي، حتى وجدت برد أنامله في صدري». وقال أيضاً «قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمٰن». وأيضاً «خمَّر الله طينة آدم بيديه أربعين صباحاً... وأنه خلقه على صورة الرحمٰن» (الملل والاهواء والنحل ج١ ص ٩٥ - ١١٩). وقال معظم علماء الدين، إن هذه العبارات يُراد بها المعاني المجازية لها، لأن الله منزه عن الجسمية تنزهاً تاماً. ولكن ألا تدل هذه العبارات مع معانيها المجازية، على أنه تعالى مع عدم تحيّزه بحيزٍ، يمكن أن يظهر في حيزٍ خاص ليعلن مجده وبهاءه، أو رعايته وعنايته، أو لطفه وعطفه، او عظمته وقدرته؟!
حلول الله في بعض البشر وظهوره في ناسوت
بشهادة معظم علماء المسلمين، فإن بعض الفرق الإسلامية المشهورة، تعتقد أن الله يحلّ في بعض الناس، بل ويظهر أيضاً في ناسوت، كما يتبين مما يلي:
يقول أهل الشيعة: «إن الجزء الإلهي حلَّ في عليّ، ويحلّ في خلفاء عليّ» (الملل والأهواء والنحل ج ٢ ص ١٢) وكثير من علماء الدين ورجال الفلسفة لا يتقيدون بالأديان التي ينتمون إليها، بل يذكرون آراءهم الخاصة، فالمرجو مراعاة ذلك.
ويقول الصوفيون إنهم يتَّحدون بالله، وإن الله يتّحد بهم، وإنهم لذلك يفنون فيه فناءً تاماً، ويصبح هو كلّ شيء فيهم. فمن المأثور عن الحسين بن منصور الحلاج أنه قال: «لا إله إلاَّ الله. ما في الجبّة إلاَّ الله». علماً بأن الصوفيين لا يؤلهون أنفسهم كما يتبادر إلى الذهن لدى الاطلاع على أقوالهم، لأنهم يؤمنون إيماناً صادقاً أن لا إله إلا الله. لكنهم بنوا عقيدتهم هذه على أن الله ينزل في قلوب العاشقين إياه، فيحل فيها بذاته، ويكون هو كل شيء فيهم.
وقال ابن الحلاج عن «الهُوَ هُوَ» الذي خاطبه الله في الأزل:
ويبدو لي أن كلمة «الهُوَ هُوَ» معناها «الذي هو وليس سواه»، وأن كلمة «الهو» معناها «الذي هو»، اي أن الكلمتين معناهما «الموجود الوحيد الغني عن التعريف». ويبدو لي أيضاً أنه هناك تشابهاً بين هاتين الكلمتين وبين كلمة «يهوه» العبرية التي تُطلق على الله. فاذا صحَّ استنتاجي، يكون ابن الحلاّج قد قصد ب «الهُوَ هُوَ» الكائن الذي يُدعى عند المسيحيين «الله ظاهراً أو معلَناً». ويوافقني ابن سينا على أن «الهُوَ هُوَ» يُراد به الله، فقد قال «الهو هو» هو «الذي هويته لذاته، وهو واجب الوجود الذي لا تركيب فيه ولا حدَّ له» (الرسالة العرشية ص ٦٣).
تجسُّد كلام الله وكلمته
يقول المعتزلة في شرحهم لحادثة ظهور الله لموسى النبي «إن كلام الله حلَّ في الشجرة أو تجسَّد فيها».
ويقول الأشاعرة ما ملخَّصه «كلام الله نوعان: الكلام بمعنى الحروف، وهو حادث، والكلام بمعنى الحديث النفسي القديم القائم بذات الله، وهو أزلي. والأول صورة خارجية للثاني... والثاني صفة قديمة قائمة بذاته تعالى... وهو مساوٍ لها في القدم، ولا علم لنا به إلا عن طريق الألفاظ.. والكلام بمعنى الحديث النفسي الأزلي واحد لا تعدّد فيه، متميز مغاير لذاته تعالى، ويظهر بصور كثيرة لمن يريد الله أن يظهره له.. وهذه الصور حادثة ومنها القرآن».
ويقول الأشاعرة أيضاً: «كلمة التكوين (كن)، الواردة في الآية (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)، معناه تجسيم الكلمة، او على الأقل إظهارها بمظهر الشخصية». فهم لا يعتقدون أن التجسم هو في أثر الكلمة (كما يحاول الذين يريدون تأويل أقوالهم)، بل يعتقدون أن التجسم هو في ذات الكلمة.
وقال الشيخ محيي الدين العربي ما ملخصه: «الكلمة الكلية الجامعة، أو العقل الإلهي، أو حقيقة الحقائق، هي اللاهوت أو باطن الناسوت». وقال أيضاً: «ما يُقال عنه العقل بالقوة هو حقيقة الحقائق، وما يُقال عنه العقل بالفعل هو العبد الكامل أو الإنسان الكامل. وهذا العبد الكامل أو الإنسان الكامل يُدعى الله.
ضرورة وجود متوسط يجمع بين الروحانية والجسمانية، بين الله والناس
قال ابن حزم: «كانت الفِرق في زمن إبراهيم الخليل راجعة إلى صنفين: الصابئة والحنفاء. وكانت الصابئة تقول إننا نحتاج في معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأوامره وأحكامه إلى متوسط، يجب أن يكون روحانياً لا جسمانياً، وذلك لزكاء الروحانيات وطهارتها وقربها من رب الأرباب، والجسماني بشر مثلنا يأكل مما نأكل ويشرب مما نشرب، ويماثلنا في المادة والصورة (ولذلك) قالوا: ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون.
أما الحنفاء فكانوا يقولون إننا نحتاج في المعرفة والطاعة إلى متوسط من جنس البشر، تكون درجته في الطهارة والعصمة والتأييد والحكمة فوق الروحانيات، يماثلنا من حيث البشرية ويمايزنا من حيث الروحانية. فيتلقى الوحي بطرف الروحانية، ويلقي إلى النوع الإنساني بطرف البشرية.
وبهذه المناسبة نقول، إذا كان من المستحيل أن يكون هناك إنسان عادي يمايز جميع الناس من جهة الطهارة والعصمة والتأييد، وهو فوق الروحانيات (لأن الأنبياء وهم صفوة البشر، قد سقطوا في الخطايا، التي يسقط فيها غيرهم من الناس) ألا يكون هذا المتوسط الذي أرتأى الحنفاء وجوده، هو ما يقول المسيحيون عنه إنه الله متأنساً؟ الجواب: أعتقد ذلك، لأن الله وحده هو فوق الروحانيات من جهة الطهارة والحكمة والعصمة والتأييد، وغير ذلك من الصفات السامية. وهل كان إبراهيم يعرف هذه الحقيقة حتى يقوم بتقريرها، كما يقول الحنفاء؟ الجواب: بناءً على ما جاء في الكتاب المقدس أقول إنه كان يعلمها، لأنه رأى الله مرة في صورة إنسان، ولأنه تهلل مرة أخرى بأن يرى يوم المسيح، فرأى بالروح وفرح (يوحنا ٨: ٥٦). وإذا كان الأمر كذلك، فإن رأي الحنفاء من جهة الشروط الواجب توافرها في المتوسط يتفق مع ما جاء في الكتاب المقدس كل الاتفاق، فقد قال الرسول فيه: «لأَنَّهُ يُوجَدُ إِلٰهٌ وَاحِدٌ وَوَسِيطٌ وَاحِدٌ بَيْنَ ٱللّٰهِ وَٱلنَّاسِ: ٱلإِنْسَانُ يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ» (١تيموثاوس ٢: ٥).
مما تقدم يتضح لنا:
شهد القرآن والأحاديث النبوية أن الله مع عدم تحيّزه بحيِّز، يمكن أن يظهر في حيزٍ خاص، بطريقة تفوق العقل والإدراك، ليظهر مجده وبهاءه، أو يساعد الأتقياء من عباده.
بعض رجال الدين والفلسفة (أ) شهد أن الله يحلّ في أجساد بعض الناس، ويظهر بصور بعض الأشخاص. (ب) وأن كلمته لها شخصية، وأنها تتجسّد وتظهر بصور كثيرة، بشرية وغير بشرية، وأنها تُدعى الإنسان الكامل. (ج) وأن الوسيط الذي يحتاج إليه البشر، يجب أن يكون فوق الروحانيات، وفي الوقت نفسه يجب أن يكون إنساناً مثلنا. (أو بحسب الاصطلاح المسيحي، يجب أن يكون هو الله متأنساً). (د) وأن المسيح هو الرب، وأنه الكلمة الأزلية، وأن اللاهوت ظهر فيه، وأنه أتى بصورة جميلة للذات الإلهية.
هذه هي خلاصة الآراء التي يعثر عليها الباحث في المحيط الاسلامي، وقد انقسم رجال النقد إزاء آراء الفلسفة إلى فريقين: فقال فريق إنها مقتبسة من التعاليم المسيحية، وقال فريق آخر إنها تفسير لبعض الآيات القرآنية والأحاديث القدسية والنبوية. ولكل من الفريقين أدلته التي تؤيِّد وجهة نظره، ولكن الحقيقة التي أرى أنه لا يختلف فيها إثنان هي:
عاش رجال الفلسفة السابق ذكرهم في عصور متباينة، ولم يكونوا من المنتمين إلى فرقة واحدة من الفرق الإسلامية، بل كانوا ينتمون إلى فرق مختلفة. فضلاً عن ذلك فإنهم لم يكونوا من العامة الذين ينقادون وراء آراء الغير انقياداً أعمى، بل كانوا من العلماء الذين يدققون في أفكارهم وأقوالهم كل التدقيق.
فإذا تأملنا آراءهم بصفة إجمالية، اتضح لنا أنها تدل على اعتقادهم أن الإنسان لا يستطيع من تلقاء ذاته أن يعرف الله، وأن الله لكماله لا يريد أن يبقى مجهولاً من الإنسان، بل يريد أن يكون معروفاً لديه، وأن السبيل الوحيد لذلك هو أن يعلن ذاته بهيئة يستطيع بها الإنسان إدراكه، وأنهم من جانبهم، كانوا يشتاقون إلى التقرُّب من الله ورؤية بهائه ومعرفة ذاته. وهذه الاعتقادات والأشواق ليست في الواقع مقتبسة من دين من الأديان، بل هي (كما يتضح من كتب التاريخ والفلسفة) اعتقادات وأشواق البشرية بأسرها، عندما تتحرر في هذا العالم من أهواء الجسد بكل أنواعها. وكل ما في الأمر أن المسيحية قد أعلنت بوضوح أن هذه الاعتقادات والأشواق قد تحققت تماماً في المسيح، وذلك لكل من يفهمها فهماً روحياً صادقاً.
المراجع:
عوض سمعان، الله طرق إعلانه عن ذاته، ألمانيا، الطبعة الأولى، ١٩٩١.