ليس لكلمة «أقنوم» مرادف في اللغة العربية أو غيرها من اللغات يؤدي معناها تماماً
«الأقنوم» أو «القنوم» والمفرد «أقنوم»، كلمة سريانية يطلقها السريان على كل من يتميّز عن سواه، على شرط ألا يكون مما شُخص وله ظل، ولذلك فإنه يُراد بالأقنوم «التعين». وقد وردت في اللغة اللاتينية كلمة تشبه هذه الكلمة في النطق تقريباً، وهي «Aequanimitas» ومعناها «Before The Class» أي في الصدارة، أو «قبل كل هيئة أو نظام». وقد تعني أيضاً «الانسجام في الفكر والشعور والصفات الطيبة».
الأقانيم هي أصل العالم
أما القول إن كلمة أقنوم معناها «أصل» كما ورد في بعض كتب الفلسفة، فليس بصحيح، إذ فضلاً عما تقدم من دليل لغوي، فإننا لا نؤمن أن الأقانيم هم أصول للعالم، بل نؤمن أنهم أصل العالم، لأنهم تعيّن الله أو الله معيَّناً. والله دون سواه هو أصل العالم ومبدعه. والقول إن كلمة أقنوم معناها أصل منقول (كما أعتقد) من قاموس مختار الصحاح ص ٥٥٣ فقد جاء فيه: «الأقانيم الأصول، وواحدها الأقنوم».
ومع كلٍ، فإن صاحب المختار نفسه اعترف أنه لم يتحقق من مصدر هذه الكلمة، فقد قال في الصحيفة المذكورة «وأحسبها روميَّة» والواقع أنها ليست كذلك، كما يتضح لكل من له إلمام باللغة اليونانية (التي يسميها صاحب المختار «الرومية»، كما لا يزال يسميها بعض الناس إلى الوقت الحاضر) لأن الكلمة اليونانية المقابلة أو التي تكاد تكون مقابلة، لكلمة «أقنوم» هي «إيبوستاسيس» وقد نُقلت إلى اللغة الإنجليزية «Hypostasis» واستُعملت فيها بهذا المعنى عينه.
هل لكلمة أقنوم مرادف في العربية
ليس لكلمة «أقنوم» مرادف في اللغة العربية أو غيرها من اللغات يؤدي معناها تماماً، لأن كلمة «شخص» العربية وما يرادفها في اللغات الأخرى تدل على الذات المنفصلة عن غيرها، والأمر ليس كذلك من جهة كلمة «أقنوم». وقد أشار إلى هذه الحقيقة «إيليا» مطران نصّيبين في القرن الحادي عشر في إحدى رسائله: «ليس في اللغة العربية لفظ يعبر به عن الموجود الذي كيانه ليس عاماً (أي الذي ليس له شريك في كيانه) أو ذا عرض (أي الذي ليس له مظهر مادي) ولذلك عبّرنا عنه بالسريانية بكلمة أقنوم».
فكلمة «الأقانيم» تختلف عن كلمة «الأشخاص» من ناحيتين رئيسيتين:
(١) إن الأشخاص هم الذوات المنفصل أحدهم عن الآخر، أما «الأقانيم» فهم ذات واحدة، هي ذات الله.
(٢) إن الأشخاص وإن كانوا يشتركون في الطبيعة الواحدة إلا أنه ليس لأحدهم ذات خصائص أو صفات أو مميزات الآخر.
أما الأقانيم فمع تميّز أحدهم عن الآخر في الأقنومية، هم واحد في الجوهر بكل صفاته وخصائصه ومميزاته، لأنهم ذات الله الواحد.
فالأقانيم في المسيحية هم تعينات اللاهوت، أو تعيّن اللاهوت الخاص، أو هم اللاهوت معيّناً، فإن جوهر الله هو عين تعيّنه، وهم تعينه أو إياه معيناً، لأن الأقانيم ليسوا تعينات في الله، بل هو ذات تعينه أو بالحري هم عين ذاته (لأنه تعالى لا تركيب فيه)، لذلك لا يُقال إن الأقانيم في الله، أو إن الله يشتمل على الأقانيم، بل يقال إن الأقانيم هم الله، والله هو الأقانيم.
ويستعمل بعض الكتّاب صيغة التأنيث مع «الأقانيم» على اعتبار أنه لا جنس لهم. لكن نظراً لأننا نقول «الله هو» مع أنه لا جنس له، فنحن نستعمل صيغة المذكر السالم مع «الأقانيم» كما استعملها الكتاب المقدس من قبل (يوحنا ١: ١). حيث أن الأقانيم ليسوا ذوات منفصلة، بل هم ذات واحدة، هي ذات الله.
الأقانيم إذاً هم اللاهوت معلناً في ذاته وصفاته، ولذلك فإن اللاهوت في تعينه أو أقانيمه لا يكون هو الله المبهَم الغامض، كما يتصوّره بعض الناس، بل الله المعيّن الواضح، الذي نستطيع إدراكه والرجوع إليه، فنجد فيه مقصدنا، الذي تسكن إليه نفوسنا وتطمئن إليه قلوبنا.
عدد الأقانيم
أما عدد الأقانيم فطبعاً هو أول عدد كامل جامع، لا يمكن لأقل منه أن تتوافر فيه خصائص الوحدانية الجامعة المانعة. وهذا العدد، كما نعلم، هو ثلاثة ويتفق معنا الشيخ محيي بن العربي على ذلك إلى حد كبير، فقد قال: «أول الأعداد الفردية، هو الثلاثة لا الواحد، لأن الواحد ليس بعدد بل هو أصل الأعداد» (فصوص الحكم ص ١٣٠). ويؤيده في ذلك الكندي، أحد فلاسفة المسلمين المشهورين أيضاً، فقد قال: «الواحد ليس بعدد بل هو ركن العدد» (كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى ص ١٢٧ ، ١٢٨)، أو «بعض العدد» كما قال في موضع آخر.
وهناك اعتقاد عام عندنا نحن البشر، بأن العدد (٣) هو أول عدد كامل، ففي أمثالنا نقول: «الحبل المثلوث لا ينقطع»، و «كل شيء بالثالث يكمل». و «المرة الثالثة ثابتة»، وأيام العزاء عندنا هي «ثلاثة». وفي قانون العقوبات يُعتبَر المجرم عائداً يستحق عقوبة الجناية بدلاً من عقوبة الجنحة إذا ارتكب مخالفة ثلاث مرات (المادة ٤٩ من قانون العقوبات). وفي الرياضيات، أول شكل هو الذي له ثلاثة أضلاع، وأول حجم هو الذي له ثلاثة أبعاد. وفي الطبيعة، كل نبات راقٍ مكوّن من ثلاثة أجزاء رئيسية، وكل حيوان راقٍ مكوّن من ثلاثة أجزاء رئيسية، وكل إنسان كامل مكوّن من ثلاثة أجزاء رئيسية، وأيضاً من ثلاثة عناصر رئيسية. والذرة نفسها مكونة من ثلاثة أجزاء.
وفي الأديان أيضاً يُعتبر العدد (٣) هو أول عدد كامل، ففي الإسلام يذكر المصلي اسم الله ثلاث مرات في كل ركعة، ويقوم بالمضمضة ثلاث مرات، والاستنشاق ثلاث مرات، وغسل الوجه ثلاث مرات، وغسل اليدين حتى المرفق ثلاث مرات، ومسح الرأس والأذنين ثلاث مرات، وغسل الرجلين ثلاث مرات. والقسَم لا يكون نافذاً إلا إذا كان بالله ثلاثاً، والطلاق لا يكون قانونياً (أو بائناً بينونة كبرى) إلا إذا كان الإشهار به ثلاثاً.
وفي اليهودية والمسيحية يُعتبر العدد (٣) أول عدد كامل (اقرأ مثلاً: ٢صموئيل ٢٤: ١٢ ، دانيال ١: ٥ ، خروج ٢٣: ١٤ ، دانيال ٦: ١٠ ، وتكوين ١٥: ٩ وإشعياء ١٥: ٥ واستير ٥: ١، لوقا ١٣: ٧، متى ١٢: ٤٠ وأعمال الرسل ١٠: ١٦).
وطبعاً ليس الغرض من الاقتباسات المذكورة هو الاستدلال بها على أن أقانيم اللاهوت لابد أن يكونوا ثلاثة. كلا، لأن الله أسمى من أن يُقاس بالنسبة إلى أي شيء من الأشياء، بل الغرض من هذه الاقتباسات هو الاستدلال بها على أنه لو أعلن لنا الوحي أن الأقانيم ثلاثة، لما جاز لعقولنا أن تعترض على الإطلاق، لأن هذه الحقيقة تكون متفقة مع الواقع المعروف لدينا. وسنبحث موضوع عدد الأقانيم بالتفصيل في كتاب «التثليث والتوحيد».
المراجع:
عوض سمعان، للّه ذاتهُ وَنوع وَحدَانيتهِ، الطبعة الأولى، ١٩٩٣